ان الحمد لله ، نحمده و نستعينه ، و نستغفره ، و نعوذ بالله
من شرور انفسنا و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له
و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أن محمدا
عبده و رسوله صلى الله عليه و على آله و أصحابه و من تبعهم
بإحسان الى يوم الديـــن ، أما بعد ...
أهـــلا بكـم أحبائنا زوار و رواد و اعضاء منتدى الحديث والسيرة النبوية
بين يدي السيرة
أ. مفهوم السيرة لغةً:
"السِّيرة":
الطريقة، يقال: "سَار" بهم سيرة حسنة، و"التَّسيار" بالفتح: تَفعال من
السير، وسايره؛ أي: جَارَاه، "فتسايرا"، وبينهما "مسيرة" يوم، و"سَيَّره"
من بلده: أخرجه وأجلاه، و"السَّيَّارة": القافلة، و"السَّيْر": الذي
يُقَدُّ من الجلد، وجمعه "سُيُور"، و"سائر" الناس: جميعهم، و"سَارُ"
الشيء: لغة في "سائره"[1].
و"السِّيرة": السُّنة،
و"السِّيرة ": الطريقة، و"السِّيرة": ترجمة الشخص، والسِّيرة النبوية وكتب
السِّير مأخوذ من السَّيْر بمعنى الطريقة، وأدخل فيها الغزوات وغير ذلك،
والجمع: سِيَر[2].
و"السِّيرة": الحال التي يكون عليها الإنسان
وغيره، غريزيًّا كان أو مكتسبًا، يقال: فلان له سِيرَة حسنة أو سِيرَة
قبيحة، والسِّيرَة: الهيئة، وفي التنزيل قوله - تعالى -: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى}
[طه: 21]؛ أي: إلى هيئتها الأولى وما كانت عليه، و"السِّيرة": الشيوع
والذيوع، سار الكلامُ والمَثَل في الناس: شاع، و"السِّيرة":حكاية أحاديث
الأمم السابقة... فمعنى السيرة إذًا: تتبُّع أحوال شخصٍ ما، وذِكر هيئته،
ورسم صورة صادقة ومطابقة لجميع شؤون حياته، في ماضيه وحاضره، في حلِّه
وترحاله، وفي اصطلاح علماء المسلمين: كل ما يتَّصل بحياة الرسول الكريم -
صلى الله عليه وسلم - سواء قبل البعثة أو بعدها، وكلمة السيرة أعم من كلمة
المغازي، وهي جمع مغزاة أو مغزى، وقد تقترن الكلمتان كما ذكر ابن سيد
الناس، وسمَّى كتابه "عيون الأثر في المغازي والشمائل والسير"[3].
ب. مفهوم السيرة فنيًّا:
قطعتْ
كلمة السير شوطًا من حياتها في التراث العربي، وهي جزء من مدونة تاريخ
العالم، تُعنَى بتتبع حياة الأشخاص من خلال الأحداث السياسية والاجتماعية
التي كانت تحيط بهم، ومدى تشابكهم معًا، وتأثرهم بها، وتأثيرهم فيها،
وتوجيههم إياها؛ فقد أطلقها علماءُ المسلمين بادئَ الأمر على الكتب التي
دوَّنوا فيها حياة الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - من حيث سلوكُه
اليومي، وغزواته التي قام بها، وما كان من رسم للخطط، وتجييش للجيوش،
وفنون الحصار، وتقسيم الفيء، ومعاملة الأسرى، وما كان فيها من أحكام فيما
كتبه من رسائلَ للملوك والرؤساء، فلما اتَّسعت الدولة، ونمَت الثقافة،
اتَّجه بعض العلماء إلى كتابة سِيَر العظماء المسلمين من خلفاء وأمراء
وقادة، ولكنها ظلَّت في جوهرها تسجيلاً للأحداث والأعمال والانتصارات
الحربية.
وحين تشعَّبتْ أمور الدولة، وازدهرت الحضارة الإسلامية،
وكثر فيها العلماء والأدباء - راج نوع من تأليف الكتب، لا يكاد يعرف
التاريخُ كثرتَه لغير الأمة الإسلامية، فألِّفت كتب لطبقات الشعراء، وأخرى
لعلماء الفقه، وثالثة لعلماء النحو، وهكذا، حتى البلدان عُني العلماء
بالتأليف في تواريخها، والحديث عن علماء كل بلد وأدبائه، وكان العلماء
يهدفون من وراء تأليف هذه السيرة إلى تحقيق غايتين:
الأولى: تخليد
هذه الشخصيات بذِكر أعمالها الجليلة، وجلاء آثارها الطيبة التي تنفع
البشرية؛ لأن الذكرى الباقية هي طريق الخلود، كما أدرك ذلك الباحثون عنه
منذ الإنسان الأول.
الثانية: إثارة
العِبرة والعظة، ودفع الأجيال إلى الاقتداء بهؤلاء العظماء، وتمثل سلوكهم
في مواقف الحياة المختلفة، وطريقة صنعهم للأحداث، وتوجيههم لمجريات الأمور.
ولا
شك أن القرآن الكريم هو الذي عمَّق الإحساس التاريخي عند العرب، بما
ذَكَره من قصص السابقين، وتواريخ الأمم الماضية، ووصلهم بها، وجعل حياتها
مجالاً لنظرهم وبصيرتهم؛ ليكون في قصصهم عبرة وعظة، ففي أحضان التاريخ -
إذًا - نشأت السيرة وترعرعت، واتخذتْ سمتًا واضحًا، وتأثَّرت بمفهومات
الناس عنها على مرِّ العصور، وتشكلت بحسب تلك المفهومات.
لكن نمو
الوعي الحضاري، واتساع مدلول الثقافة، جعل بعضَ الكُتاب يُعْنَون بتتبُّع
حياة أشخاص عاديين، كشخصيات "عقلاء المجانين"، ومن أبرزها "سيبويه المصري"، الذي كتب سيرته "ابن زولاق"
في يقظة فنية، وتسجيل دقيق لطبيعة الحياة اليومية في العصر الذي عاش فيه،
مع تعبير يسير خالٍ من التزويق والتنميق، وروح قصصية عذبة، الأمر الذي
أوهن الخيوط التي كانت تربط السيرة بالتاريخ، وبدأت تبتعد قليلاً عنه،
وتدنو من الأدب وما يهدف إليه من تحقيق المتعة الفنية والنفسية.
وما
أن جاء العصر الحديث، وقوي الاتصال بين الثقافة العربية والثقافة
الأجنبية، حتى وهت الروابط التي كانت تربط السيرة بالتاريخ، وأصبحت جنسًا
أدبيًّا قائمًا بذاته، تُعْنى بشخصية الفرد من حيث هي، وتجعلها الحقيقة
الكبرى، وتنظر إلى كل ما يصدر عنها نظرةً مستقلة؛ فهي تصوير لحياة الشخصية
منذ ولادتها حتى نهايتها، وما يعتورها من صحة ومرض، وما يطرأ عليها من
طفولة ونضج، وكهولة وشيخوخة، وما ينتابها من قدرة وعجز، وصواب وخطأ.
ومن
ثم أصبح عمل كاتب السيرة الجوهريُّ مسيرةَ حياة الشخصية، بالالتفات الدائم
إلى ملامحها الخارجية وتبدلها، ونموها الداخلي وصراعها النفسي، وحركتها
الدائبة لبلوغ غايتها، وما تدل عليه مناحي تفكيرها في آفاقه المتنوعة،
فكاتِبُ السيرة يعتمد على الأصل التاريخي للشخصية، ولكنه بخياله الرحب،
وذكائه القادر، يصل إلى تمثيل الحقيقة من خلال ركام المخلفات الإنسانية،
والمصادر المختلفة، والافتراءات العديدة التي يسوقها التعصب للشخصية أو
عليها، والتفسيرات الخاطئة لأحداث تعدَّدت فيها الروايات؛ ومن ثم يتجلى
الإبداع في تشكيل الشخصية التي يعالج الكتابة عنها، ولكنه لا يقف عند مجرد
التشكيل؛ بل يمنح هذه العظامَ النَّخِرَةَ الحياةَ، لتجري فيها الدماء،
وتعود تتنفس من جديد، فنرى الشخصية مجسمة ناطقة، تغدو وتروح على مسرح
الحياة، وتجيش بكل الانفعالات والعواطف التي تثور في أعماق البشر.
لذلك يمكن القول: إن كاتب السيرة صانع ماهر، مثله كمثل النحَّات الذي يشكل من المادة التي أمامه بناء فنيًّا رائعًا[4].
جـ. مادة السيرة:
يرجع
كاتب السيرة إلى مصادرَ ومراجعَ كثيرةٍ متنوعة، يستقي منها الحقائقَ
والمعلوماتِ التي يعتمد عليها في تشكيل الشخصية التي يكتب سيرتها، وجلاء
جوانبها، وتعميق مجرى حياتها، ومن أهم المصادر والمراجع لكاتب السيرة ما
يأتي:
1- الوثائق الشخصية:
التي
خلفها العَلَم الذي تُكتَب سيرتُه، وهي أكثر المصادر أهمية؛ لأن الإنسان
يعرف من تفصيلات حياته ما لا يعرفه الآخرون، من أحداثٍ تموج بالألم أو
الأمل، ومن صفات تتصل بالنقص أو الكمال، ومن أعمال تتصف بالصغار أو
الجلال، وغير ذلك من الأسرار التي قد يحرص على كتمانها، ولا يتيح لغيره أن
تقع عينُه عليها، ومن أبرز هذه الوثائق الشخصية:
• السيرة الذاتية التي
يكتبها البعض لحياته وبقلمه، وهذه السيرة ينبغي أن تؤخَذ مأخذَ الحذرِ
البالغ؛ لأن الإنسان قد يقول في سيرته الحقَّ، ولكن ليس كل الحق، كما أن
الذاكرة قد تضعف ولا تتذكر من أحداث الماضي البعيد إلا ما ترسَّب في نفس
صاحبها لأهمية خاصة، كما أنها قد تغفل أشياء أخرى ترى في البوح بها مساسًا
لمكانتها الاجتماعية، أو ترى فيها إيذاء لمشاعر الآخرين؛ لذلك ينبغي على
كاتب السيرة عدمُ الاعتماد التام على السيرة الذاتية؛ بل ينبغي مقابلتها
بغيرها من المصادر؛ لأن السيرة الذاتية يبعد أن تسترجع الماضي على حاله
الحقيقية.
• المذكرات: التي
يسجل فيها العَلَم خواطرَه وأفكاره، سواء كانت متَّصلة بالأحداث الخارجية
التي أحاطت به وبمواقفه منها، أو كانت استبطانًا ذاتيًّا يصور مشاعره
وإحساساتِه، وهذه ذات قيمة كبيرة في جلاء الشخصية، وأكثر التصاقًا وقربًا
من الأحداث التي يصفها العَلَم؛ لذا كانت أقلَّ عرضة للنسيان أو التذكر
القاصر.
• اليوميات: وهي تصوير دقيق لتطور الشخصية في حركتها الداخلية والخارجية.
• الرسائل: وهي
تعرض الشخصية في صورة من صور تفاعلها مع الذين يعاصرونها، ومن ثَم فإنها
تقدم لنا الشخصيةَ من الداخل تقديمًا يفوق غيرَها من الوثائق الشخصية.
2- النتاج المطبوع:
وهو
ما تركه العَلَم الذي نكتب سيرته من مؤلفات مطبوعة، ومقالات منشورة، وأخطر
أنواع هذا النتاج الكتاباتُ الأدبية؛ إذ لا شك أن هناك صلة وثيقة بين حياة
الفنان ونتاجه في مختلف مراحل العمر؛ لأن هذا النتاج يمثل تطوُّرَ
واكتمالَ تجربتِه وصداها العميق في نفوس الناس، وبهذه التجارب المسجلة صار
الفنان أهلاً لأنْ تُكتَب سيرة حياته، فيجد فيها القارئ المتعة؛ لأنه
حينئذٍ يتحسس الحياة بأعصاب الفنان المرهفة، ويشاركه حلاوة التجربة
ومرارتها، فالعمل الفني بالضرورة يحتوي على عناصر من حياة الفنان وشخصيته؛
إلا أن بعض النقاد يرى أن هذه العناصر الذاتية قد فقدتْ معناها الفردي
بدخولها في عملية البناء الفني، وأصبحت مادة إنسانية عامة، فلا يصح لنا أن
نخرجها من نطاقها الإنساني، ونعيدها إلى فرديتها من جديد، لندرجها في سيرة
نكتبها.
وعلى ذلك، فإن النتاج الأدبي ليس وثيقة يُعتمد عليها
اعتمادًا أساسيًّا في كتابة السيرة؛ لكن لا يمكن أن يمر بها كاتب السيرة
دون أن يطيل الوقوف عندها، والتأمل فيها، فإن أخذ، أخذ بحذر وحرص بالغ،
ففيها ما يدل على فكر وشخصية.
3- الآثار الأخرى للشخصية:
مثل المكتبة: فهي تساعد على إدراك الكثير من دروب تفكير العَلَم، من حيث حجمُ المكتبة، وتخصصاتها، وطريقة تنطيمها، والتعليق على ما قرأ مِن كُتب.
والصور الشخصية: صامتة مفشية، تمدُّ كاتب السيرة بمادة قيمة مثل الرسائل والمذكرات.
والهوايات والملابس:
من حيث ذوقُه في اختيارها، وطريقته في العناية بها، كل هذه الآثار لها
دلالتها النفسية العميقة التي تُعِين كاتِبَ السيرة على تفهم جوانب
الشخصية؛ لأنها تلخيص للطبيعة الإنسانية في العَلَم صاحب السيرة.
4- ما كتب عن الشخصية، وروايات أقربائها عنها، وتعليقات الأصدقاء والأعداء:
هذه
كلها تمدُّ كاتب السيرة بالمادة، كما تمده بعنصر الزمن؛ لكن يجب أن يقف
منها الكاتب موقفَ الحذر واليقظة؛ لما يمكن أن يختلط بها من مبالغات، أو
تجسيم للأخطاء والعيوب من جانب العداء، أو إخفاء أو تبرير لها من جانب
الأصدقاء[5].
د. عمل الكاتب في مادة السيرة:
كاتب
السيرة باحث موسوس، يقوم بعملية بحث مثيرة؛ سعيًا وراء الحقيقة في حياة
شخصية من الشخصيات، فهو ينفض غبار الزمن عن الوثائق، ويتحرَّك بمنظاره إلى
الأمام، وإلى الخلف، وإلى العالم؛ سعيًا وراء الحقيقة، وفي أثناء هذا
البحث الواسع يجمع أكوامًا من الوقائع الجزئية، والمعلومات التي قد يبدو
بينها شيءٌ من التناقض؛ لذلك كان ضروريًّا له أن يتحلى بما للمؤرخ من
بصيرة نافذة، وقوة ناقدة، تعمل على تمحيص الروايات، وتميِّز بين مواطن
الضعف ومواطن القوة، فتفرز الرواياتِ المغرضةَ من الروايات الصحيحة، وتدرك
ما بين السطور من معانٍ لا تبوح بها؛ ولكن السيرة فن، والفن أساسه
الاختيار والانتقاء، ومن ثم كان ضروريًّا أيضًا أن يتحلى كاتب السيرة
بإدراك ذوقي دقيق، يتيح له أن يستبقي من الوقائع الصحيحة ما يسهم في جلاء
جوانب الشخصية، وما يعين على تنميتها وفق الخطة التي رسمها لبنائها،
وإعادة تشكيل حياتها كما كانت في الواقع، كما يتيح له رفض ما لا يسهم في
ذلك، أو ما قد يكون تَكرارًا يبعث على الملل؛ فما كل شيء يستحق التسجيل
والتدوين.
فإذا ما صحَّتْ لديه المادة، وانتقى ما يتَّسق ورؤيتَه
الفنية، كان عليه أن يقوم بتنسيق هذه المادة المنتقاة تنسيقًا يتلاءم مع
الغاية التي حدَّدها من السيرة التي يكتبها، وينسجم مع التشكيل الذي آثره
لبناء الشخصية؛ حتى تكتمل ملامحُها، وتتميز شاخصةً في ظروف حية من الزمان
والمكان، وكأنها تعود إلى الحياة مرة أخرى.
وقد لا تسعف المادة
الصحيحة الكاتبَ في بعض الأحيان؛ فالمعلومات والوقائع التي يجمعها عن حياة
الشخصية لا يمكن أن تغطي كل يوم من حياتها مهما كثرت، فلا بد أن توجد
الفجوات والثغرات في هذه الحياة، وأيسرُ السُّبُل لملئها هو الخيال، ولكن
كاتب السيرة يبحث عن الحقيقة، ويتوخى الوقائع؛ ولذلك كان عليه أن يبحث عن
وسيلة أخرى، قد تكون الترجيح عن طريق الربط بين المتشابهات والاستنتاج،
وقد تكون المرور على هذه الفجوات وتخطيها دون أن يورط الكاتب نفسَه في
التخييل واختراع الحوادث؛ لأن التخييل المسرف ينحرف بالسيرة إلى القصة
التاريخية[6].
هـ. الصياغة الأدبية:
هي
التي تكسو هيكلَ السيرة لحمًا، وتشخصه وتنفخ فيه الروح، فيسعى بيننا كما
كان يوم جال في الحياة، ولا نعني بالصياغة الأدبية مجردَ التركيب البلاغي
للجملة والتعبير الإنشائي؛ وإنما نعني بها الإطار الفني، بما فيه من طريقة
عرض، وطريقة تعبير؛ إذ هو الذي يتحكم في القيمة الجمالية للسيرة، وهو
أيضًا موطن التفرُّد بين كُتابها، وقد يؤثر بعض الكُتاب الصياغة الدرامية،
فيقرب بذلك من الشكل المسرحي وما فيه من حوار يمنح الشخصيةَ الحيويةَ
والحركة، ويجعلها وكأنها تضطلع حقًّا بتمثيل دورها على مسرح الحياة، فيلمس
القارئ حركة نموها، ويعيش مراحل تطورها، وهي تتكشف أمامه عن مواقفها، على
أن شرط الحوار لا يكون من اختراع الكاتب؛ بل تكون مادته مستقاةً من وثائق
الشخصية وما يدوَّن عنها، وقد يختار بعض الكُتاب الصياغة الحكائية
السردية، فيمنح السيرةَ الروحَ القصصية التي تربط بين الأحداث ربطًا
عضويًّا، وتغوص في أعماق الشخصية فتكشف مجاهلها، وتُظهِر انعكاساتِها
الخارجيةَ من خلال الصراع بين الشخصية والبيئة والآخرين، دون أن يتقيد
الكاتب ببقية عناصر الإطار القصصي المتدرجة إلى العقدة والحل، ودون إطلاقه
العنان لخياله[7].
و. الفرق بين السيرة والقصة التاريخية:
الخيال في القصة التاريخية حرٌّ طليق،
وكذلك ابتداع الأحداث واختراع الشخصيات، ويمتزج كل ذلك بشيء من التاريخ،
يقوم على الفهم العام لروح العصر الذي يستقي منه الكاتبُ مادةَ قصته،
ولطبيعة ناسه؛ ذلك أن القصة التاريخية تعتمد على استحياء التاريخ، والتزام
الصدق في التعبير عن طبيعة الزمان والمكان، دون تشويه للحقائق الكبرى
والأحداث الهامة.
أما الخيال في السيرة، فمقيَّد ممسوك الزمام
بالوثائق والبيانات والوقائع التي حدَثتْ فعلاً، ودَوْرُه ينحصر في إحياء
الوقائع وتشخيصها، وإدراك العلاقات الخفية والظاهرة بين جزئياتها كما
عرفت، فالسيرة تزاوجٌ متعادل بين حقائق التاريخ والقوى المتخيلة البارعة
في الحذف والإثبات والبناء، وليس من حق كاتب السيرة اختراعُ شخصيات مهما
كانت ثانوية، وابتداعُ أحداث لسد الثغرات والفجوات، إلا ولها صلة مهما
كانت ضئيلة بمصادره التي استقى منها مادته.
كذلك تختلفان من حيث
الغايةُ التي تتوخاها كلٌّ منهما؛ فالغاية في القصة التاريخية ليست رسم
حياة متكاملة لشخصية من الشخصيات كما هو الشأن في السيرة، وإنما غايتها أن
تستعيد صورة الماضي؛ لإثارة الموازنة بينه وبين الحاضر، أو لإثارة شيء من
العبرة أو المتعة في نفوس أناسٍ ربما لم تُتِح لهم ظروفُهم أو ميولهم
القراءةَ الجادة للتاريخ، لكنهما تتَّفقان في تعمُّد الكشف عن حقيقة
إنسانية، أو معنى من معاني السلوك الإنساني، نرضى عنه فنحتذي به، أو نضيق
به فنتجنَّبه[8].
ز. الفرق بين السيرة الذاتية والسيرة الغيرية والترجمة:
استُعمل
لفظ السيرة أول ما استعمل في تأريخ حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
وسُمِّي الذين ألَّفوا هذا التاريخ بأصحاب السِّيَر والمغازي، وفي البداية
دوِّنت السيرة كبابٍ من أبواب الحديث في الكتب الصحاح، ثم جاء مِن بعدُ
مؤرِّخون من رجال الحديث تفرَّدوا بكتابتها، وكان ذلك في أواخر القرن
الأول وبدايات القرن الثاني الهجريين، وتُعَدُّ سيرة ابن هشام، تلك التي
رواها عن ابن إسحاق، أقدمَ مصدر معتمد عليه في هذا الباب.
وبعد
ذلك، وعلى مدى توالي العصور الإسلامية، أخذنا نجد طائفة من المؤرخين
يكتبون السيرة والشمائل النبويتين، وقصدُهم من ذلك الموعظة والاعتبار،
فمنهم مَن أفاض في الحديث عن سلوكه - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من أفاض
في الحديث عن غزواته، ومنهم من فصل الحديث عن أولاده وحفدته، ومنهم من
أفرد كتابًا للسيرة، كالقاضي عياض في كتابه "الشفا في تعريف حقوق
المصطفى"، ومنهم من جعل السيرة قسمًا من كتاب في التاريخ، كالطبري.
واستمرَّ
الأمر على هذا المنوال حتى عصرنا هذا، فوجدنا السيرة النبوية تخضع هي
الأخرى لمقاييسَ فنيةٍ، هي دعائم قدَّمها النقدُ المعاصر لفن السيرة، ومن
هذه المقاييس عمليةُ التحليل وعملية النقد؛ نقد الزائف من الأخبار، وذلك
أن كلاًّ من "محمد حسين هيكل" و"العقاد" كتب عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - في ضوء هذا المفهوم، وكذلك بعض المستشرقين، إلا أن منهم من روى
الأحاديث واكتفى بذلك، ومنهم من حاول الدس كالمستشرق "الأب لامنس".
كما
نجد أن كلمة السيرة قد أخذت مدلولاً عامًّا، هو تأريخ الحياة، بقطع النظر
عن صاحبها، ففي أواخر القرن الثالث الهجري كتب "أحمد بن يوسف الداية" سيرة
"أحمد بن طولون"، وفي أوائل القرن الرابع الهجري كتب "عبدالله البلوى"
سيرة ثانية لابن طولون، ولكن بشكل أكثر تمحيصًا وتوسعًا، وفي القرن الخامس
كتب "أبو النصر العتبي" سيرة السلطان "محمود الغزنوي"، الذي يرجع إليه
الفضل في نشر الإسلام في ربوع الهند، وسمى كتابه "اليميني"، وفي القرن
السادس كتب "ابن الجوزي" طائفةً من السِّير لجماعة من عظماء الدولة
الإسلامية كـ"عمر بن عبدالعزيز"، ثم اختفت السير في القرن السابع والثامن
والتاسع عن حياة الأموات، وحلَّت محلها الكتابة عن الملوك وأصحاب السلطان
والعلماء الأحياء، ككتاب ابن شداد "النوادر السلطانية".
والترجمة
نوع من السيرة، والفرق بينهما الإيجاز والإطناب؛ فالسيرة العامة إن كانت
موجزة يطلق عليها (ترجمة)، أما المفصلة المطنبة، فهي سيرة عامة ، ومن
مقاييس الترجمة أن تقدم للمترجَم تعريفًا يتناول: ميلاده وموته، واسمه
ولقبه، وكنيته ونسبه، مع إشارة عابرة إلى شيوخه، وإلى أهم أحداث حياته،
وإلى جيد ما أُثِر عنه فيما برع فيه من المجالات، والترجمة بهذا المعنى
تقترب من أن تكون توثيقًا تاريخيًّا ينجزه بعضهم بأسلوب منمَّق، كالثعالبي
في "يتيمة الدهر"، وينجزه آخرون بلغة علمية هادئة، ككتاب "الأغاني"[9].
فالتراجم
الشخصية "فن حديث من فنون الأدب، انفصل عن علم التاريخ، ودخل علم الأدب من
باب الطاقة الشعورية التي يبثها الأديب في موضوعه، والقيم الفنية التي
يضمِّنها تعبيره"[10].
أما السيرة العامة، "فتختلف أساسًا عن
الترجمة من حيث الطولُ، والعناية الفائقة برسم الشخصية بطلة السيرة رسمًا
دقيقًا يتناول الجانب النفسي والسلوكي، كما يلقي أضواءً كاشفة على الجانب
الذي جلت فيه هذه الشخصية، ولكي يصل هذا الفن إلى هذه الغاية؛ فإنه يتخذ
لذلك سبيلَ الأسلوب القصصي بما فيه من سرد وحوار، وحبكة وذروة توترية، كما
يجري على هذه الشخصية مقاييس التحليل النفسي"
[11].
والترجمة
إما أن تكون ترجمة ذاتية، وإما أن تكون ترجمة غيرية، "والترجمة الذاتية
الفنية ليست هي تلك التي يكتبها صاحبها على شكل (مذكرات) يُعنى فيها
بتصوير الأحداث التاريخية، أكثر من عنايته بتصوير واقعه الذاتي، وليست هي
التي تكتب على صورة (ذكريات)، يُعْنى فيها صاحبها بتصوير البيئة والمجتمع
والمشاهدات أكثر من عنايته بتصوير ذاته، وليست هي المكتوبةَ على شكل
(يوميات) تبدو فيها الأحداث على نحو متقطع غير رتيب، وليست في آخر الأمر
اعترافات يخرج فيها صاحبها على نهج الاعتراف الصريح، وليست هي الرواية
الفنية التي تعتمد في أحداثها ومواقفها على الحياة الخاصة لكاتبها، فكلُّ
هذه الأشكال فيها ملامحُ من الترجمة الذاتية، وليست هي؛ لأنها تفتقر إلى
كثير من الأسس التي تعتمد عليها الترجمة الذاتية الفنية، وكثيرٌ من
الأعمال الأدبية هي تراجمُ ذاتيةٌ في خطوطها العريضة، وفي مفهومها
الفضفاض، من مثل المقالة الشخصية واليومية، والمفكرة، والرواية المعتمدة
على الترجمة الذاتية"[12].
وعلى ذلك، فإن الترجمة الذاتية مرتبطة
بشخص كاتبها؛ لذا لا بد من قيام "نوع من البُعد بينها وبين كاتبها، وتنشأ
بينهما مسافة تتأتى بها عن حقيقة ماضيه، وحقيقة ما هو عليه، وبهذا يصبح
للترجمة الذاتية معنى الخلق الإنساني، الذي يتعدَّى كاتبَها، ويتجاوز حدود
إنسان بعينه، وهذا التصوير هو ما تقرِّره نظريةُ الأدب الحديثة، وهو أيضًا
ما يقتضيه (المنهج التجريبي في شأن الظاهرة الأدبية)، من حيث إن المؤلف
ليس جزءًا من العمل الأدبي، ولا العمل الأدبي جزءًا منه؛ بل العلاقة
بينهما تقوم على التعالي المتبادل"[13].
أما الترجمة الغيرية،
فالتعالي من الكاتب موجود أصلاً، وليس هناك حاجة لأنْ نوجب نوعًا من البعد
بينها وبين المترجِم؛ إذ المترجِم يعلم أخبارًا عن المترجَم له؛ ويرسلها
إلى المتلقِّي، وعلى كاتب السيرة عامةً أن يتحقق فيما ينقله أو يحكيه عن
غيره، وأن يكون دقيقًا في نسبة الأقوال وتوثيق المروي، فيميز بين ما رآه،
وما سمعه، أو وقف على تفصيلاته بنفسه، وبين ما تناهى إليه خبره عن غير
معاينة أو سماع مباشر؛ حتى لا يؤخذ بجريرة غيره، فيُرمى بالكذب وهو منه
بريء؛ لأنه مأمور ألاَّ يعرِّض نفسه للشبهات"[14].
والسيرة العامة
لا تختلف عن الترجمة فيما سبق من حيث الذاتيةُ أو الغيرية، وفي الوقت نفسه
تلتقي السيرتان - الغيرية والذاتية - في الكثير من الصِّفات، وتتشابك فيها
مجموعة من العناصر التي تتصل بالشكل والمضمون، مما دفع بعضَ النقاد إلى
القول باتِّفاقهما التام، فمهما تعدَّدت الأقوال في الدوافع التي تدعو إلى
كتابة السيرة، فإنها يمكن أن تندرج تحت اسم واحد، هو الإعجاب: إعجاب
بالنفس في السيرة الذاتية، وبالعلم في الغيرية، إلا أن هذا الإعجاب يجب
ألاَّ يطغى؛ حتى لا ينحرف الكاتب بعنصر جوهري من عناصر السيرة بوصفها
عملاً أدبيًّا، وهو عنصر الصدق.
كذلك يلتقيان في تحليل الشخصية،
بمعنى البحث عن أعماق مجرى النفس الكامنة تحت المظهر الخارجي، غير أن
نوعية التحليل مختلفة في كل منهما؛ فكاتب السيرة الذاتية يقدم الشخصية من
الداخل إلى الخارج، فهو يقدم الانفعالات، ثم أثرها الخارجي؛ أي: بروزها في
شكل أحداث، وما ينتج عن هذه الأحداث من معطيات، أما كاتب السيرة الغيرية،
فليس أمامه إلا الأحداث الخارجية يتَّخذها وسيلةً لولوج الشخصية من
الداخل، فمهما يتعمق داخل الشخصية فهو يقدمها من الخارج إلى الداخل، لكن
ذلك لا يدفع إلى القول بالاتفاق التام بين النوعين (الذاتية والغيرية)،
فلا شك أن بينهما شركة كتلك التي بين سائر الأجناس الأدبية؛ ولكن ثمة بعض
الفروق الدقيقة تفصل بينهما.
فالسيرة الغيرية يقف كاتبها من
الشخصية التي يكتب سيرتها موقفَ الشاهد في الدعوى لا القاضي، فليس له أن
يحمل فكرة مقررة سابقة عنها، فتصطبغ نظرته إلى مجريات حياتها بما تُمْليه
هذه الفكرة، وإنما واجبه أن يرتدَّ إلى الخلف، فيقدِّم صورةَ الشخصية
واضحةَ القسمات كما كان يعرفها معاصروها، أما كاتب السيرة الذاتية، فهو
يجمع بين الصفتين (الشاهد والقاضي)، ولا يمكن فرض هذا القيد عليه؛ إذ هو
ينظر على نفسه، ويسلط أضواء النقد ودقة الملاحظة على شخصيته، فما يقوله
يقبل على وجهه.
ومن هنا يتَّضح فرق أساس بين الذاتية والغيرية؛ هو
أن السيرة الغيرية موضوعية، يعتمد فيها كاتبها على الوثائق والمشاهدات
والمذكرات، وغيرِها من الوقائع والحقائق، التي ينبغي أن ينظر إليها في
موضوعية، ويعمل على تنقيتها والحكم عليها؛ لينفذ منها إلى بناء سيرة
وتشكيل الشخصية التي يكتب عنها، وليس المقصود بالموضوعية الموضوعيةَ
العلمية المتزمتة؛ إنما التشكيل الفني يصبغ هذه الموضوعية بذاتية الفن لا
ريب في ذلك، وتأتي هذه الصبغة من حيث الاختيار والتنسيق، والتلوين وتوزيع
الأضواء والظلال، أما السيرة الذاتية فهي نقل مباشر؛ إذ إن كاتبها بصير
بالحقائق المتعلقة به، ويقوم بتحليلها وتفسيرها على نحو ذاتي، وإن كان
ينبغي له الموضوعية في نظرته إلى نفسه، دون تحيز لها، ولا انسياقٍ وراء
تعلُّقها بذاتها، وحبها للاستعلاء، ورغبتها في الانتقاص من شأن الآخرين ما
دام ذلك يؤدي إلى رفعة شأنها، وبيان قدرتها على تحقيق ما عجز عنه الآخرون.
وذلك يبدو في أيام "طه حسين"؛
فكثير من الشخصيات التي عَرَض لها من ذلك النوع الذي ينقطع به الطريق قبل
النهاية، وذلك لا لسوء الظروف والأحوال؛ وإنما للعجز الطبيعي عن بلوغ
الغاية، وحتى يمهد لإبراز الانتصار الذاتي الذي أحرزه، بتصوير الإخفاق
الذي كان مِن نصيب الشخصيات الأخرى، مع أنها كانت أفضلَ منه حالاً، وأصلح
جسمًا، وأتمَّ عافية.
ومعنى ذلك أن السيرة الغيرية موضوعيةٌ، مع
قليل من ذاتية الفن، وأن الأخرى ذاتية، مع قدر قليل من الموضوعية، وهذا سر
نجاح كلٍّ منهما وبقائه، وتقترب الاثنتان وتتضاءل الفروق بينهما، متى كانت
الشخصية موضوع السيرة مَثَلاً أعلى لكاتبها، حينئذٍ تصبح السيرة تعبيرًا
ذاتيًّا عن مشاعر كاتبها ووجدانه وظروفه النفسية، يُرضي بها نزعاتِه
ودوافعَه، وتجسِّد أمانيه ومطامحه[15].
ح. بين السيرة والقرآن والسنة:
عرفنا
أن السيرة النبوية عِلمٌ يدور حول كلِّ ما يتصل برسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قولاً وعملاً وصفة، وعِلم الحديث في اصطلاح المحدِّثين هو ما
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً، أو عملاً، أو تقريرًا، أو
صفة، فموضوعهما إذًا واحد، وفي الخبر المروي عن عائشة - رضي الله عنها -
حينما سُئلت عن خُلُق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: "كان خلقه
القرآن".
وعلى هذا؛ لا نجد غضاضة في القول: لا فرق كبير بين سيرته
- صلى الله عليه وسلم - والقرآن الكريم، فقد كان - صلى الله عليه وسلم -
قرآنًا حيًّا يسير بين الناس، فمسيرة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وسنته هما المفتاح الأول لفهم كتاب الله - تعالى - والنموذج الأسمى
لتطبيقه والعمل به.
فمن كذَب على الله - تعالى - في القرآن، أو كذب
على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث أو السيرة متعمدًا، فليتبوأْ
مقعدَه من النار، وتساهُلُ علماء السير في جمع الصحيح والضعيف، والمرسل
والمنقطع - غيرُ خفي، ويقول "الزين العراقي" - رحمه الله -:
وَلْيَعْلَمِ الطَّالِبُ أَنَّ السِّيَرَا تَجْمَعُ مَا صَحَّ وَمَا قَدْ أُنْكِرَا
|
وقال الإمام أحمد بن حنبل وغيره: إذا روينا في الحلال والحرام، شدَّدنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها، تساهلْنا[16].
طـ. أهمية دراسة السيرة النبوية:
تَشرُف
العلوم بشرف موضوعها، وموضوع السيرة النبوية هو كل ما يتصل بحياة الرسول -
صلى الله عليه وسلم - وهي أشرف حياة خلقها الله - تعالى - لأن الرسول -
صلى الله عليه وسلم - أَحبُّ خلق الله إلى الله، وخير خلقه - تعالى - ومن
ثم فدراسة السيرة النبوية لها أهمية كبرى، ومهمة عظمى، أهمها:[17]
1- الوقوف على شخصية رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - من خلال دراسة حياته وظروفه كلها؛ للتأكد من بشر مؤيد بوحي السماء.
2-
إشباع رغبة المسلم التواقة لمعرفة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل
البعثة وبعدها؛ لعِظَم مكانته في نفوس المسلمين، فهي فوق مكانة النفس
والأبوة؛ قال - تعالى -: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، وهو أحب لأمَّته من الأهل والعشيرة والمال والأولاد؛ قال - تعالى -: {قُلْ
إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ
وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ
كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ
اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
3- معرفة مدى اهتمام الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، بكل ما يتصل بحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم.
4-
ظهور المنهج العلمي الدقيق لدى العرب مبكرًا، حيث امتلك فنُّ الرواية
لأحداث التاريخ عند العرب منهجًا علميًّا دقيقًا لرصد الوقائع، وتمييز
الصحيح منها عن غيره، لم يملك مثلَه غيرُهم، غيرَ أنهم لم يكونوا ليكتشفوا
هذا المنهج، ولم يكونوا لينجحوا في وضعه موضع التنفيذ في كتاباتهم
التاريخية، لولا السيرةُ النبوية، التي وجدوا أنفسهم أمام ضرورة دينية
تحملهم على تدوينها تدوينًا صحيحًا، لا يشوبه وهمٌ، ولا يتسلل إليه خلط أو
افتراء؛ ذلك لأنهم علموا أن سيرة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وسنته هما المفتاح الأول لفهم كتاب الله - تعالى - ثم هما النموذج الأسمى
لكيفية تطبيقه والعمل به، فكان أن نهض بهم دافعُ اليقين بنبوة رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وبأن القرآن كلام الله - تعالى - وبأنهم يحملون
مسؤولية العمل بمقتضاه، وأن الله محاسبُهم على ذلك حسابًا دقيقًا، نهض بهم
اليقين بكل ذلك إلى تحمُّل أقصى الجهد في سبيل الوصول إلى منهج علمي، تحصن
فيه حقائق السيرة والسنة النبوية.
5- الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتأسِّي به؛ قال - تعالى -: {لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو
اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
6- تيسير فهم كتاب الله - تعالى - بالوقوف على الأحداث التي مرَّت بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وما نزل من آيات القرآن في ذلك.
7-
الارتقاء والسمو والارتفاع بالأجسام فوق جوانب المادة، وقيود الأرض،
والبعد عن طغيان المادة على الروح، والاعتدال في مطالب الحياة.
8- الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله، ونبذ الخلود إلى الأرض، والتخوفِ من الموت، والحرصِ على الحياة؛ قال - تعالى -: {مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا
بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]، فقد كان الصحابة يتمنَّون الشهادة لإعلاء كلمة الله - تعالى.
9- إعطاء المثل الكامل لما تقوم عليه الأسرة المسلمة التي يتكون منها البيئة الخصبة، والمجتمع الطيب المتكامل.
10-
تكوين نماذج حية للمعلم والداعية عن طريق التربية والتعليم، فقد كان - صلى
الله عليه وسلم - معلمًا ناصحًا، ومربيًا فاضلاً، سلك الطريق الصالحة
للتربية والتعليم، وعالج الأمور بحكمة، وساس الأمَّة برفق.
11- تجميع أكبر قدر من الثقافة والمعارف الإسلامية الصحيحة لمجموع مبادئ الإسلام وأحكامه.
إلى غير ذلك من الدواعي والأهداف.
• خلاصة القول:
إن
حياته - صلى الله عليه وسلم - تقدِّم لنا نماذجَ ساميةً للشباب المستقيم
في سلوكه، الأمين مع قومه وأصحابه، كما تقدم النموذج الرائع للإنسان
الداعي إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، الباذل منتهى الطاقة في سبيل
إبلاغ رسالته، ولرئيس الدولة الذي يسوس الأمور بحذق وحكمة بالغة، وللزوج
المثالي في حسن معاملته، والأب في حنو عاطفته، مع تفريقٍ دقيق بين الحقوق
والواجبات لكل من الزوجة والأولاد، وللقائد الحربي الماهر، وللسياسي
الصادق المحنك، وللمسلم الجامع في دقةٍ وعدل بين واجب التعبُّد والتبتُّل
لربه، وللمعاشرة الفكهة اللطيفة مع أهله وأصحابه، لا جَرَمَ إذًا أن نقول:
إن سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست إلا إبرازًا لهذه الجوانب
الإنسانية كلها، مجسدةً في أرفع نموذج، وأتم صورة.
ــــــــــــــــــــ
[1] "مختار الصحاح"، مادة (س ي ر).
[2] "المعجم الوجيز"، مادة (س ي ر).
[3] انظر: "في ظلال السير النبوية"، د. أحمد محمد صيرة، ص 7 - 8.
[4]
انظر: "النقد الأدبي"، فرج عبدالسلام الدسوقي - علي عبدالمنعم عبدالحميد،
الجزء الثاني، ص41 - 43، أمانة اللجنة الشعبية العامة للتعليم والبحث
العلمي - ليبيا، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، 1987 - 1988.
[5] انظر: "النقد الأدبي"، فرج عبدالسلام الدسوقي - علي عبدالمنعم عبدالحميد، الجزء الثاني، ص45 - 48.
[6] السابق: ص45 - 49.
[7 "النقد الأدبي"، فرج عبدالسلام الدسوقي - علي عبدالمنعم عبدالحميد، الجزء الثاني، ص103.
[8] السابق: ص104.
[9]
انظر: "دراسة المؤلفات الجديدة"، أ/ محمد الكتاني، ج3، ص 15، الطبعة
الأولى، 1400هـ - 1980م، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب.
[10] "النقد الأدبي الحديث: أصوله ومناهجه"، أ/ سيد قطب، ص 90.
[11] "دراسة المؤلفات الجديدة"، أ/ محمد الكتاني، الجزء الثالث، ص 15، 16.
[12]
"الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث"، دكتور يحيى إبراهيم عبدالدايم،
ص 3، 4، دار النهضة العربية للطباعة والنشر - بيروت، أكتوبر 1974(التاريخ
مأخوذ من توقيع المؤلف على المقدمة).
[13] السابق: ص 9.
[14] الأدب
الإسلامي: مجلة فصلية تصدر عن رابطة الأدب الإسلامي العالمية، المجلد
الرابع عشر، العدد السادس والخمسون (1428هـ - 2007 م)، ص 42 من مقالة
بعنوان: "في السيرة الذاتية من منظور إسلامي"، للأستاذ: أحمد علي آل مريع.
[15] انظر: "النقد الأدبي"، فرج عبدالسلام الدسوقي - علي عبدالمنعم عبدالحميد، الجزء الثاني، ص139 - 141.
[16] انظر: "في ظلال السير النبوية"، د. أحمد محمد صيرة، ص8.
[17] انظر: السابق، ص12 - 15
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
المصدر