السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله الذي خلّص قلوب عباده المتقين من ظُلْم الشهوات ، وأخلص عقولهم عن ظُلَم الشبهات
أحمده حمد من رأى آيات قدرته الباهرة ، وبراهين عظمته القاهرة ، وأشكره شكر من اعترف بمجده وكماله
واغترف من بحر جوده وأفضاله وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر الأرض والسماوات ، شهادة تقود قائلها إلى الجنات
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، والمبعوث إلى كافة البريات ، بالآيات المعجزات
والمنعوت بأشرف الخلال الزاكيات صلى الله عليه وعلى آله الأئمة الهداة ، وأصحابه الفضلاء الثقات
وعلى أتباعهم بإحسان ، وسلم كثيرا
أما بعد :
فإن اصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي
محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها،
وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار
ــــ أعاذنا الله وإياكم من النار ــــ
القرآن حياة و نور
الأستاذ علي بن عمر با دحدح
-قال الله سبحانه وتعالى-:
(وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ
مَنْ نَّشَاء) [الشورى: 52]
تأملوا في هذين الوصفين:
القرآن روح تبث الحياة في القلوب الميتة، تشرق بالهداية على العقول الزائغة، تستقر بالاستقامة على الجوارح المنحرفة
روح كما تكون الجثة هامدة فتبث فيها الروح، فإذا بالحواس كلها تعمل، فالعين تبصر،
والأذن تسمع، واللسان يتكلم، والقلب يفكر، إنها روح، روح حقيقية:
(لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37].
أجسادنا كأنما هي
جثث هامدة لا تحيا إلا بالهداية الربانية والوحي الإلهي، إلا بكلمات الله
-سبحانه وتعالى- وآياته، إلا بهذا القرآن العظيم الذي اختص الله به أمة
محمد -صلى الله عليه وعلى آله
وصحبه وسلم-، تخيلوا
ذلك المريض الذي أشرف على الموت وأصبح لا يعمل فيه شيء إلا بالأجهزة، ماذا
ينتظر الناس؟! ينتظرون بين لحظة وأخرى أن تتعطل كل حواسه ويتوقف قلبه
ويموت،
فإذا قضى الله -عز وجل-
وقدّر أن تعود إليه حياته ويعود إلى طبيعته قال الناس: سبحان الله!! سبحان
من يحيي العظام وهي رميم!! كأنه قد مات ثم حيا.
والأمر الآخر أو
الوصف الآخر وصف النور، فالحياة التي تدب في الأجساد لا تنفع إذا كان
الإنسان في ظلام دامس، إذا كان في ظلمات بعضها فوق بعض، إنه يحتاج إلى
النور الذي يكشف له
الطريق ويبيّن له
المعالم، ويحدد له المواقف، ويقرر له المناهج، فيعرف من يوالي ومن يعادي،
ويدرك كيف يحب وكيف يبغض، ويعلم من يجب أن يصل، ومن يجب أن يحذر، ويعرف كل
دقيقة
وكبيرة، وكل أمر من
أمور حياته وتعاملاته في هذه الحياة، فإن غاب عنه هذا النور فإنه يخبط خبط
عشواء، لا يدري أيتجه يمينًا أم يسير يسارًا، أيقف أم يتحرك، أيتقدم أم
يتأخر
وذلك عين الحيرة المربكة والضلال الذي يجعل الحركة مضرة، أعاذنا الله وإياكم من ذلك:
(وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ
مَنْ نَّشَاء) [الشورى : 52]
(أَوَ
مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ
فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) [الأنعام : 122].
إخوة الإيمان والإسلام: أعطانا الله الحياة والنور، فلماذا نرضى أن يبقى موات القلوب؟! ولماذا نرضى أن نعيش في الظلام؟!
وبين أيدينا هذه الحياة المتدفقة بكل عوامل القوة، وبين أيدينا هذا النور المشرق بكل الهداية في جوانب الحياة:
(إِنَّ
هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً
كَبِيراً) [الإسراء : 9].
نعم إنه نور: (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) [المائدة : 15]، والحق -جل وعلا- يقول: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً) [النساء : 174]
وهو أيضًا شفاء: (هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : 138]
فيه الهداية وفيه ما يرقق القلوب ويذكر العقول ويعيد الإنسان إلى صوابه ويرده إلى طريق الحق.
(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء) [فصلت: 44]، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ) [الإسراء : 82]
شفاء لكل
الأدواء الحسية والمعنوية، شفاء للحيرة والاضطراب باليقين والإيمان، شفاء
للشك والارتياب بالعلم والبينة الواضحة، شفاء للزيغ والانحراف بالاستقامة
على الصراط المستقيم، شفاء
للشهوات المحرمة
بالطاعات المقربة، شفاء لكل شيء يمر بك، وجواب لكل سؤال يعرض لك، وحل لكل
مشكلة تواجهك، يكفي أن ترجع إليه، لا بلسانك بل بقلبك وعقلك وفكرك وعلمك
وكل
جوارحك، لتجد كل ما
تحتاج إليه، فهل نحن كذلك؟! وهل نحن في رمضان وفي شهر القرآن وفي الختمات
التي نتلوها والختمات التي نسمعها والآيات التي تدوي في كل مكان، هل خلصت
إلى
القلوب وهل استرعت انتباه العقول؟! وهل اقتضت منا أن نصل إلى المراتب المطلوبة التي جاءت في كتاب الله -عز وجل-؟!
(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [ص: 29]، واللام هنا للغاية والحكمة
(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)
الغاية التدبر، الحكمة
التدبر، التفكر، العيش مع القرآن، الحياة مع معانيه، الاستحضار لكل ما يرد
فيه من وعد ووعيد، اليقين بكل خبر من أخباره التي مضت ومن أخباره التي
تأتي، الحب
والتعلق، الشغف
والإدمان والصلة التي فيها كل ارتباط لكل الجوارح في كل الأوقات لكل
الأحوال ولكل الأسباب، هذا هو المقصد الأعظم، وإلا فلننتبه إلى الذنب وإلى
التحذير:
(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24]
إن
عدم التدبر دلالة على أن القلوب مغلقة، مقفلة، قد خُتم عليها، لا تخلص
إليها هداية القرآن، لا تشرك فيها أنواره، لا تظهر عليها آثاره، لا تتعرف
منها على أسراره، كثيرة هي الأمور
التي نحتاج أن نتأملها ونتدبر فيها.
وانظروا إلى المعنى الآخر: (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام : 155]، مرة أخرى أنزلناه، ومرة ثانية مباركة، وهنا المطلوب مع التدبر وفي التدبر وأثناء
التدبر وفي طريق التدبر: (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ) [البقرة : 121]، والآية في سياق الحديث عن أهل الكتاب
لكنها أيضًا خطاب لنا بأن نتلو القرآن حق تلاوته، قال ابن عباس: "يحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه عن مواضعه"، امتثالاً واستجابة كاملة مباشرة، صورة واضحة
لها في حديث أنس -رضي الله عنه- لما نزل
تحريم الخمر في قوله: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة : 90]
بلّغها رجل صاح بها في آفاق المدينة: انتهينا انتهينا، في لحظة واحدة كانت الاستجابة المباشرة لكل الفئات شاملة دون تأول ولا تأخر ولا تردد،
ذلك هو أثر القرآن:
(فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
"كان خُلقه القرآن"، صلى الله عليه وسلم.
لذلك لا بد لنا أن نعيد النظر في هذه الصلة التي نحن عليها، هي صلة خير ولا شك، لكنها تحتاج إلى مزيد من العناية والرعاية
جميل أن نقرأ القرآن، رائع أن نختم القرآن، لكن الأكمل والأمثل والأفضل أن نضيف إلى ذلك تدبر القرآن.