في الطريق وعورة تستوقف العربة وتؤخر
المسير، وأحجار وشواخص تحرف عن الطريق، فيتوه ضعيف البصر، وينجو قصاص
الأثر، من استجمع حواسه الخمس يرهف السمع يمعن النظر يشتم الرائحة يتذوق
طعم الطريق ويتحسس سخونته وبرودته.
قصاص الأثر زاده الصبر الجميل، تتوقف عربة المسير لحجر كبير اندس
بين العجلات، ترجل طويل النفس، الشمس تتكئ على كتفيه والريح تعبث ببردية
رمال الصحراء تحرق وجنتيه وتعكس الوهج على عينيه لكن قصاص الأثر أبصر من
زرقاء اليمامة وأصبر من جمل أتدرون لم؟ لأنه يحمل الخريطة ويتابع المسير،
لأن الهدف أغلى من وقته وماله وروحه، هذا سر صبره، لكل صاد له عن الطريق
علامة وأثر عليه، فالشمس توقع على بشرته عنوان صموده، وهوام الطريق تحفر
أخاديد بأنيابها على جلده، وبثور لسعها يكسي ما بقي من بشره، والحجارة
ترسم خدوشاً وشروخاً على يديه ورجليه، وربما تتلف بعض أصابعه فتتساقط في
الطريق.
اعتاد وجود العوائق أصبح في إلف معها حتى إذا افتقدها يوماً شك في صحة الطريق، فهي علامات ودلالات على الطريق: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل).
تلك الحجارة يبعدها عن مركبته حتى يسلمها لكفء مثله، حتى تصل أو
على الأقل تبقى سائرة في الطريق لهداية المسافرين (كن في الدنيا كأنك غريب
أو عابر سبيل) وإن توقفت يوماً استمتع بتنظيف الطريق من العوائق والبوائق
لأولئك السائرين، قصاص الأثر ماهر أيضاً في تعبيد الطرق، أتدرون لم؟ لأنه
يحمل الخريطة، وكأنه يوقع بعلمه وبصموده على الطريق على شمسه وحجارته
وأشجاره ومنحدراته ومنزلقاته ويضع إشارات التحذير ويعلق لافتات الوجهة
الصحيحة كتبها بقطرات دمه المتتابعة على الطريق. يفل الخريطة ليتأكد من
سلامة الوجهة ويدون عليها عوائق جديدة ليستفيد منها من أتى بعده، ويستلهم
منها طرق العلاج وليقطع الوحشة وشعور الوحدة والغربة التي يجدها في بعض
مراحل سيرة فيأنس بتدوين خبرته عليها.
يلتفت للكسالى على الطريق ممن اصطحبوا كثيراً من الزاد والمتاع
والرياش اصطحبوا الدنيا برمتها ويريدون أن يتجاوزوا ثقالاً، ويصيح لا
تثقلوا العربة، أصلحوا العربة فالطريق سالك للمبصرين.
عمي هم مبصر هو لأن النور بين عينيه لا يفارقه كتاب الله وسنة نبيه - عليه الصلاة والسلام -.
إن غاب نجم أو التحفت السماء بالغيوم لا يحيد عن الطريق أتدرون
لماذا؟ لأنه يحمل الخريطة، قد خبأها في صدره تسقيها أوردة قلبه وينفض عنها
الغبار هواء رئتيه، حبا وولاء لدينه، صدق في إيمان، علم وعزيمة وبذل وذب
عنه وخلق فاضل وأدب جم وأخوة صادقة، تلك هي الخريطة التي لا يستطيع إلا
قلة قليلة رسمها وقلة قليلة تستطيع ترجمتها إلى واقع تعيشه وتستهدي بها في
حياتها وقلة قليلة من تثبت عليها قصاص الأثر له حداء يزيل عنه وعثاء
السفر.
مركب الدعوة لن يضل إذا تابع آثار المصطفى - صلى الله عليه وسلم
- وصحبه الكرام وكان زاده نيته الخالصة لله وزينته وعطره صدق أخوته،
وغايته نشر دين الله.
الكـاتب : بدرية الغنيم