الصراع بين المدني والديني في المجتمع السعودي عبدالعزيز السماري من أجل أن تفهم معوقات
التطور في هذا المجتمع، لابد من معرفة تلك العلاقة التاريخية غير
المتجانسة بين المدني والديني، والتي قد تلتقي في أحيان نادرة، لكنها في
كثير من الأحيان تختلف، وتكون نتيجتها احتساب وتوترات ومطاردات ومحاولات
لكسر العظم، تنتهي في أغلب الأحيان بانتصار أحدهما، لكن لا يعني ذلك
انتهاء الخلاف، فالتحدي يستمر ويأخذ وجوهاً أخرى، على سبيل المثال صدر في
أوائل الستينيات الميلادية قرار بفتح قناة للتلفزيون، وبالتالي جواز
اقتناء الجهاز، لكن الديني وجد صعوبة في قبول ذلك، لتخرج فتوى تحرم اقتناء
التلفاز ومشاهدته، وتبدأ سلسلة من الصراعات الاجتماعية التي صاحبها عنف
ومطاردات، وقد أخذ الأمر عقداً من الزمان حتى وصل الأمر إلى هدنة سلام
بينهما، انتهت بقبول الأمر الواقع، ثم مشاركة أصحاب الفتاوى المحرمة في
التعاطي مع الجهاز الناقل للأحداث والبرامج، وليصبح في الزمن الحالي أحد
أهم قنوات الاتصال بين عالم الفتاوى والمجتمع.
يُرجع العلم
الحديث اختراع تقنية الكاميرا والتصوير الفوتوغرافي إلى العالم العربي
المسلم ابن الهيثم، لكن اكتشاف العالم المسلم لم يشفع بجواز اقتنائها
واستعمالها في المجتمع دون دورة تشنج، فما أن سمح لها المدني أن تدخل
الأسواق صدرت الفتاوى التي تُحرم التصوير الفوتوغرافي، ولتنقل المعركة إلى
المجتمع، وتبدأ سلسلة من التحريضات ضد استعمال الاختراع العربي القديم،
وذلك لأن صور الكاميرا فيها مضاهاة لخلق الله عز وجل!، كان آخر فصول هذا
الخلاف بين المدني والديني في المجتمع أن قبل أصحاب فتاوى التحريم، ثم
أصبحت صورهم تُزين صفحات الجرائد.
في خضم هذا الصراع بين المدني
والديني، حاول أحدهم أن يجر الصراع إلى داخل قاعات الجامعة عندما نجح في
الحصول على فتوى دينية تحرم القرار التعليمي المدني في منهج كلية الطب
الذي يتوافق مع المناهج العلمية الدولية، وتنص الفتوى على تحريم أن تفحص
الطالبات المرضى الرجال في بعض التخصصات، والعكس صحيح، وكانت النتيجة حدوث
صراع مرير في كلية الطب وخلافات لا حصر لها انتهت باتخاذ قرارات مصيرية،
ولتتحول الكلية والجامعة إلى بؤرة للاحتساب الذي يعمل على فرض التغيير
بالقوة.
كانت مرحلة دخول جهاز استقبال القنوات الفضائية من أهم
الخلافات التي صادرت حرية المجتمع النسبية، والتي كانت فصولها تعد مرحلة
من مراحل كسر العظم، فالاقتصاد المدني فرض بكل ما يملك من قوة ونفوذ
استيراد الأجهزة الفضائية، لتصدر في المقابل فتاوى تحرم استيرادها
وامتلاكها، واتخذت تلك المعركة فصولاً وصلت إلى استخدام الأسلحة الخفيفة
لإسقاط الصحون الهوائية من أعالي المنازل، وإلى مصادرة الأجهزة من المحلات
التجارية، ولم تنته الأزمة إلا بعد أن تم دخول شركات عملاقة لبيع القنوات
الفضائية، ولم تخل السنوات الأخيرة من مناوشات على الهامش بين صغار التجار
وبين بعض المحتسبين.
تكررت تلك الأحداث في حلقات لا تتوقف، وكان
المشهد كما ذكرت أعلاه يبدأ بدخول المادة أو الجهاز إلى السوق ثم إصدار
الفتوى بتحريمها، ومنها الهاتف الجوال الذي في داخله كاميرا، والإنترنت
والبراقع والعباءات الملونة والتي تُلبس فوق الكتف، والكتب الثقافية في
معارض الكتاب، وغيرها من الأمثلة التي لا يزال يصاحبها تشنج، ويصعب حصرها
في مقال قصير، مثل كشف الوجه والموسيقى، والتي قبلها المجتمع المدني، ثم
رفضها الديني ولا يزال يرفضها في فتاوى دائماً ما تؤكد ذلك الصراع الخفي
ما بين المدني والديني في المجتمع، وإذا كان يصعب تقدير خسائر التجار، فإن
ما يستحيل تقديره ما تعرض له المجتمع والدولة من انفجارات وإرهاب وتكفير
بسبب تلك الفتاوى التي عادة ما تصدر بعد القرار المدني، والتي كانت -حسب
وجهة نظري- أحد أهم أسباب التطرف في هذه البلاد، وقبل ذلك تعد العائق
الثقافي الأهم ضد خطوات التطور من أجل اللحاق بالركب الإنساني في بقية
العالم.
باختصار، يعاني المجتمع السعودي من إرهاق حضاري مزمن،
فقد أضاع شبابه وطاقاته في صراع أشبه بالماراثون الطويل الأمد، امتد لأكثر
من قرن، وتم استنزاف طاقاته في ذلك الخلاف المزمن بين المدني والديني، لكن
هل استفاد التياران من تلك التجارب المريرة؟، وهل حان الوقت أن يتفقا على
صيغة تحد من تلك العشوائية التي تقذف باختلافاتها إلى الشارع، ثم تنتظر
ساعة الحسم، وهل يُعقل أننا أمة غير الأمم، تجري خارج الركب، وتعتقد
بخصوصيتها من دون البشر، ولاسيما ونحن ننتظر إنهاء ملفات في غاية الأهمية
مثل تقنين الشريعة وتطوير القضاء. والإصلاح الإداري