ثقافتنا والاختراق التركي
يوماً بعد يوم يتأكد لنا أن ثقافتنا
الاجتماعية تتعرض لهجمة شرسة متعمدة، ويوماً بعد يوم يتأكد لنا أن هذه
الهجمة إن لم تكن قد همشت ثقافتنا الاجتماعية بعد فهي على وشك فعل ذلك بل
وتفكيكها. ويوماً بعد يوم يتأكد لنا أننا قد لا نحتاج الى غزو ثقافي خارجي
مستنفر ولا اختراق ثقافي غربي لكي يتحقق كل ذلك، بل قد يتحقق كل ذلك
بأيدينا وتحت أنظارنا ودون أن نفعل شيئاً.
كثيرة هي المصادر التي كنا نتوقع أن
تأتينا منها هذه الهجمة، ولكن ما لم نكن نتوقعه أن يكون مصدر هذه الهجمة
قادمة من الداخل وفي صورة أعمال درامية تدخل كل بيت دون استذان وعن طريق
شرعي ومقنن. تلك الاعمال الدرامية تحمل في طياتها قيماً كثيرة تتعارض مع
عاداتنا الاجتماعية. ولن نكون متشائمين إن قلنا إن هذه الأعمال بالقيم
التي تحملها قد تهدد سلامة مجتمعنا والبقية المتبقية من تراثنا.
خطر هذه الاعمال الدرامية كبير. فهي قد
نجحت في نيل شعبية كبيرة بين مختلف الاعمار والشرائح الاجتماعية، تماماً
كما نجحت في نيل قبول بين مختلف الخلفيات الثقافية. الكل يتابع الدراما
التركية والكل مجمع على أنها حلت محل الدراما العربية وتغلبت عليها
بتقنياتها المتطورة ومظاهرها الخلابة والباهرة، ومعظمنا مأخوذ بكيفية
وصولها إلينا ونيلها كل ذلك القبول والمشاهدة. البعض يقبل عليها لأنها
تقدم صورة مختلفة عن واقعنا الاجتماعي، والبعض يقبل عليها لأنها تقدم صورة
ثرية وبراقة ومظاهر طبيعية نفتقدها.
ولكن القليل منا توقف وتساءل عن كيفية
نفاذ هذه الاعمال الى بيوتنا بكل هذه السرعة، بل وبكل ما تحمله من قيم
مختلفة ومتعارضة مع عاداتنا الاجتماعية وتقاليدنا وتراثنا. القليل منا
تساءل عن قيم العلمانية الغربية التي تبشر بها هذه الأعمال.
لقد أجمعت الدراما التركية على بث قيم
مشتقة ليس من قيم المجتمع الإسلامي، بل من قيم المجتمعات العلمانية، قيم
غريبة على مجتمعنا وعلينا تبشر بمجتمع جديد تقوم العلاقات فيه على أسس
جديدة ومغايرة تماماً عما تعلمناه وتربينا عليه. لم يعد الأمر يهدد القيم
المحلية التي همشت ولا العادات الاجتماعية الاصيلة المعرضة للاهتزاز، بل
أصبحت تشكل تهديداً خطيراً لثوابتنا الدينية وما تبقى من تراثنا الأصيل،
والذي قد يصبح بالياً إذا ما قارناه مع القيم المبشر بها.
كان الاعتقاد بأن المسلسلات التركية
نابعة من تراث وعادات تركيا المسلمة التي هي قيم شرقية معروفة ومقبولة
لدينا، ولكن الحقيقة التي اتضحت لنا فيما بعد بأن القيم التي تبشر بها هذه
الدراما هي قيم تركيا العلمانية، وتركيا المتجهة غرباً. إذاً بعيداً عن
المشاهد المبهرة والمناظر الطبيعية الخلابة ومظاهر الحداثة الزائفة.
والتي قد لا تجدها في واقع الحياة في
تركيا، فإن التأثير المتوقع لهذه النوعية من الدراما على ثقافتنا المحلية
يثير القلق بل والريبة أيضا. فلا جدال أننا أمام مشهد مقلق، فتلك الدراما
تهدد ما تبقى من ثقافتنا الاجتماعية المهددة أصلًا، لا سيما وأنها تلقى
رواجا كبيرا بين الناس ولا سيما الشباب الذين يحبون تقليد كل جديد ومثير
وغريب.
التهديد قادم وإن لم يتحقق اليوم
فلا شك أنه سوف يتحقق في السنوات القادمة إذا ما استمر الأمر بهذه الوتيرة
واستمر الإقبال على هذه النوعية من الدراما بهذه الطريقة. وإن كان اليوم يمثل تهديداً للهوية الثقافية والعادات، فغداً سوف يتحول الى قضية تمس ثقافة المجتمع بأكمله.
كانت الأسئلة المؤرقة هي لماذا سمحنا
لهذا التهديد الثقافي أن يتغلغل الى بيوتنا، ولماذا سمحنا لهذه النوعية من
الأعمال بالانتشار السريع والقبول الواسع بين مختلف شرائح المجتمع؟ ولماذا
أصبحت معظم قنواتنا الفضائية فجأة تعج بكافة أشكال الاعمال الدرامية
التركية المدبلجة؟ الإجابة تكمن في فقر الدراما العربية أو ضعفها وتكرار
قصصها.
لذا ففي زمن قياسي تقبل الناس الدراما
التركية ولم تصبح اللغة عائقاً. فالدبلجة جعلت من تلك الدراما مفهومة كما
سهلت أمر تغلغل القيم التي تبشر بها. فالمشاهد الإباحية والعلاقات خارج
إطار الزواج والممارسات غير الاخلاقية جميعها قيم تكررها جميع الاعمال
الدرامية التركية وجميعها أصبحت أمراً لا بد منه في تلك الدراما.
قد يقول البعض إن ثقافتنا محصنة لأنها
تستمد أسسها من تعاليم ديننا الاسلامي الحنيف، وبالتالي فهي سوف تقف صامدة
ضد أي اختراق أو تهميش أو تفكيك. ولكن هناك من يقول أيضا إن قطرات الماء
المستمرة قادرة على تفكيك الحجر والنفاذ الى أعماق التربة.
ولذا فإن هذه الأعمال قادرة على المدى
الطويل على النفاذ الى عمق ثقافتنا الاجتماعية وأن تعمل على التأسيس
لمجتمع مغاير ذي قيم جديدة مشتقة من قيم المجتمعات العلمانية. سلبيات
الدراما التركية كثيرة، ولكن لها بعض الإيجابيات أيضاً، ولعل أهم قضية
نجحت فيها الدراما التركية هو في إعادة الاعتبار لدور الحماة القوي في
الاسرة. من إيجابياتها الأخرى أيضا هو تشجيع السياحة لتركيا التي استفادت
أكبر استفادة من انتشار الدراما التركية.
وبعيدا عن إيجابيات وسلبيات الدراما
التركية تبقى ثقافتنا الاجتماعية وهويتنا الثقافية هدفا يجب أن نسعى
للحفاظ عليه. فلكي نؤسس لمجتمع آمن ومستقر محصن بعادات وتراث مستمد من
عاداتنا الأصيلة، يجب علينا أن نحمي ثقافتنا الاجتماعية من أي تهديد قيمي.
فمستقبل الأجيال القادمة وهويتهم هو من
أهم الثوابت التي تجمعنا. فلكي يقف أجيال الغد على أرضية ثابتة يجب أن
نؤمن لهم تلك الارضية بتقاليد وعادات أصيلة ضاربة في عمق تاريخنا. إذاً
علينا أن نحافظ على ما تبقى من تراثنا، خاصة تلك القيم المتوافقة مع قيم
العصر. بهذا نكون قد حافظنا على مجتمعنا وهويته الثقافية وحافظنا على
ثقافتنا من الاختراق.