بسم الله الرحمن الرحيم
أصدق اصطلاحاتنا اللغوية الحديثة ـ ردنا الله إلى لغة الكتاب
والسنة ـ قول أحد كتاب العرب المحَدَثين: (العرب ظاهرة صوتية)، بمعنى أن
نصيبنا القول ونصيب غيرنا العمل.
وليت نصيبنا من القول صرف في ما استخلفنا الله فيه: القرآن
والسنة ـ الوحي اليقيني الذي اختص الله لغتنا به ـ التزامًا ونشرًا، إذًا
لحزنا الخير بحذافيره، قال الله - تعالى -: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 17، 18]، والقول هنا خاص بالوحي من الله - تعالى - كما قال لموسى: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [الأعراف: 145]، وقوله: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر: 55]، وقال الله - تعالى -: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت: 33]، أما قول البشر فليس علينا استماعه كله ولا اتباعه كله.
ويظهر لي من تخلفنا في الصناعة من قبل ومن بعد، بما في ذلك صناعة
علوم القرآن والسنة بل واللغة ـ فهرسةً وطباعةً وتقعيدًا ـ وتخلفنا عن
أعاجم المسلمين في جمع وتخريج السنة أن الله اختصنا بما عم به المسلمين من
خدمة الدين بالدعوة إلى الله على بصيرة، بالوسائل الفطرية التي لا يعجز
عنها بشر سويٌّ، "فكل ميسر لما خلق له" [متفق عليه].
وفي المقابل يسر الله غير المسلمين لخدمة الدنيا والدعوة إليها، فهم أحق وأولى بها، قال الله - تعالى -: وَلَوْلَا
أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا
يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا
يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:
33 - 35]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدنيا سجن المؤمن
وجنة الكافر" [رواه مسلم] ومن فضل الله وعدله ألا يعطي عبدًا من عباده ـ
مؤمنًا كان أو كافرًا ـ كل شيء، وألا يحرمه من كل شيء.
ولكن أكثر المسلمين أهملوا ما خلقهم الله ويسرهم له، وتطلعوا إلى
ما خلق الله الكافرين ويسرهم له، فخسروا الأمرين، كما قالوا عن الغراب
الذي حاول مشية الحمام فخسر المشيتين. والأصح هنا أن نقول: إن الحمامة
العربية هي التي حاولت مشية الغراب الغربي فخسرت الأولى والثانية.
ومهما بذلنا من جهود وأموال وأوقات وتضحية بالذي هو خير في سبيل
الذي هو أدنى، لم ولن يتجاوز نصيبنا التبعية والتقليد والتخلف، وكان
عزاؤنا الكلام، أي كلام؛ وهذان مثالان من الأمثلة:
أ- قال عربي لا يعرف له اسم ولا رسم: (لا مشاحة في الاصطلاح) في
فقه الدين، وقال آخر: (اتق شرَّ من أحسنت إليه) في الأخلاق، وقال ثالث:
(الامتحان شرُّ لا بدَّ منه) في التعليم، وقال رابع: (الأمثال لا تغير) في
الحكم الشعبية.
ولو سمت هممنا إلى عرض هذه الأقوال ـ ومثلها كثير ـ على الشرع أو
العقل، لما قبلناها ورددناها واستشهدنا بها دون تمحيص كأنها وحي منزل، بل
إن كثيراً من مثقفينا الإسلاميين ـ فضلاً عن الأميين ـ لا يقبل الوحي
المنزل المبني على الإيمان بالغيب إلا بعد عرضه على فكره واقتناعه به:
1- والحق أن (المشاحة) واردة على الاصطلاح الحادث في علوم الدين
ـ عقيدة وعبادة ومعاملة أو سلوكاً ـ حتى يقره شرع الله من الكتاب والسنة
وفقه أئمة العلم في القرون المفضلة.
2- وقد أمر الله بالإحسان في المعاملة للمسلم وللكافر وللكتابي، قال الله - تعالى -: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 22]، وقال - تعالى -: وَلَا
تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ
وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34]؛ فعاقبة الإحسان الخير لا الشر.
3- وبفضل من الله ورحمة لم يجعل الشر طريقاً لنا إلى الخير، قال الله - تعالى -: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185]، وقال - تعالى -: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:
175]، والامتحان الشَّريُّ الذي كان يحكم التعليم في جميع مراحله شر كان
لا بدَّ منه وآثاره السيئة على العلم وطلابه من بداية التنظيم الدراسي إلى
نهايته لا ينكرها إلا جاهل أو مكابر.
4- والأمثال قد تكذب فتردُّ، وقد تصدق فتوضع في مكانها الصحيح،
وأصدقها ما جاء في كتاب الله مثل قوله - تعالى -: كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ
تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف: 176]، وما
جاء في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل: "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بما يرجع"
[رواه مسلم]. وقد رد النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً من أقوال العرب
ومصطلحاتهم وأمثالهم وأسماءهم؛ مثل نهيه عن سب الدهر، وما أكثر ما يسب إلى
اليوم شعرًا ونثرًا، ونهى عن أسماء تدل على الصلاح وأسماء تدل على ما دون
ذلك، بل ونهى عن تسمية العنب كرمًا، ونهى أن تسمى صلاة العشاء صلاة
العتمة.
ب- ولأن الطموح إلى الترف قعد بنا عن الطموح إلى المنازل العليا
التي أراد الله لنا شرعًا أن نتنافس فيها، وأعلاها في الدنيا: هداية الناس
إلى التوحيد والسنة، وفي الآخرة: رضاه والجنة؛ اكتفينا بالقعود في المؤخرة
نرقب ما يفعله الآخرون وننحت له الأسماء والمصطلحات ونحكم عليها، ومن
الأمثلة:
1- انتظار الأحداث المحلية والعالمية، ثم تحليلها سياسيًّا
وفكريًّا، وإصدار الأحكام الشرعية عليها، بلا موازين غير الظن وما تهوى
الأنفس، وبين أيدينا هدي الكتاب والسنة لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا
من خلفه.
قال الله - تعالى -: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم: 23]، محذراً من الوقوع فيما وقع فيه الضالون قبلنا.
2- عزو كل ما يحدث في الكون إلى مؤامرات محبوكة لا تخيب، وتخطيط
دقيق لا يفشل من أمريكا واليهود، حتى أشركوهما ـ إن لم يكونوا أفردوهما ـ
في الربوبية والتدبير والتصرف، ونسوا أقدار الخالق وخطايا المخلوق، قال
الله - تعالى -: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَا
أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ
فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء: 79].
3- ترجمة كلمة (Secular) إلى: عِلماني
ـ بكسر العين ـ وبعد عشرات السنين تحويلها إلى عَلماني ـ بفتح العين ـ
وقليل من يعقل أن أصل استخدامها الحديث بدأ بخروج النظام الأوربي البشري
عن سلطة الكنيسة الكاثوليكية، وليس للمسلم أن يحزن كثيراً لهذا الحدث فإن
كلاً من الخارج والمخروج عنه منحرف عن شرع الله. وللأسف فإن تنفيذ
المسلمين لما قلدوه من أحكام البشر أسوأ منه، وأقرب مثال حكم القانون في
فرنسا بحق المرأة المسلمة في الحجاب، وتحريمه في تركيا.
4- ترجمة كلمة (Socialism) إلى:
اشتراكية، والحكم عليها بما وصلت إليه بسبب التقليد العربي الفاشل للفكرة
الأوربية وتنفيذها الفاشل، ومن ثم الحكم عليها بالكفر، وفي الوقت نفسه،
وبسبب جهلهم بأحكام الأموال في الإسلام، وصف بعضهم هذه الأحكام
بالاشتراكية الإسلامية.
5- تعريب كلمة (Democracy) إلى:
ديمقراطية، وحملوها أكثر مما تحمل من خير أو شر، بحكمهم على التنفيذ
الناجح أو الفاشل للديمقراطية، منذ ولاية المدينة في اليونان قبل (2500)
سنة، وبما صاحب التنفيذ من تحكيم قوانين البشر، ثم طالبوا بها للوصول إلى
السلطة بطريق الانتخابات والمظاهرات والإضرابات، رفضًا لتعيين ولاة الأمر
خلفاؤهم وعمالهم، وهو بلا شك أقرب إلى الشرع والعقل من حكم الأكثرية الذين
وصفهم الله - تعالى -بقوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [البقرة: 243]، لا يعلمون [الأعراف: 187]، لا يؤمنون [هود: 17].
6- ترجمة مصطلح (International Legitimacy)
إلى: الشرعية الدولية، وعدوها من الشرك الأكبر، وانشغلوا وأشغلوا بها
وبمثلها المسلمين عن الاحتراز من الشرك الأكبر الذي جاءت كل الرسالات وكل
الرسل للتحذير منه والقضاء عليه: تقديس المزارات والمشاهد والمقامات
والأضرحة ودعاء من نسبت لهم، وطلب المدد منهم، والنذر لها، والذبح والصلاة
عندها تقرباً إلى الله بمعصيته.
7- ترجموا كلمة (Capitalism) إلى:
رأسمالية، وربطوها بأمريكا وحكموا عليها بالكفر، ثم سعوا إليها باسم
البنوك الإسلامية والمستشفيات الإسلامية، والمدارس والمعاهد والكليات
والمراكز الإسلامية، بل والفرق الفنية والنوادي الرياضية الإسلامية.
والحق أنه لا يجوز الحكم على فرد أو تنظيم أو شيء إلا بما جاء به
الوحي المنزه عن الظن واحتمال الخطأ، وبفقه أئمة العلم الشرعي في القرون
المفضلة في نصوصه، وبذلك وحده يتميز الكفر من الإيمان، والحرام من الحلال
والمباح، وأمور الدنيا والعادات من أمور الدين والعبادات.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه ومتبعي سنته.
الكـاتب : سعد بن عبد الرحمن الحصين