[center]بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
في
أوائل سورة البقرة ،بين الله تعالى صفات المتقين ، ثم أعقبها بذكر حال
الكافرين ، ثم ذكر حال المنافقين، وختم بيان ذلك بقوله : أولئك الذين
اشتروا الضلالة بالهدى ، فما ربحت تجارتهم وماكانوا مهتدين. وهذه تجارة خاسرة ، وبضاعة كاسدة ، لاتباع إلا في سوق المنافقين ، ولا يبتاع منها إلا المنافقون.
وتأمل
تلك العبارة الدقيقة في الآية قبلها : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا .
وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، إنما نحن مستهزئون. فتعبير
الآية يقول إنهم إذا لقواالذين آمنوا ، بينما عند شياطينهم قال : وإذا
خلوا . فهم مع المؤمنين ظاهرا ، حال الملاقاة ، بينما هم مع شياطينهم في
خلوة ، وهكذا حال المنافقين في كل زمان ، ومكان.
يجاهرون
بالقول الحسن أمام المؤمنين ، فينمقون الكلمات ،ويزخرفون العبارات ، وإن
يقولوا تسمع لقولهم ، يطنبون في ذكر محاسن الدين ، وحرصهم على أخلاق
المسلمين ، وسعيهم للإصلاح ، ونهيم عن الفساد ، يعجبك قوله في الحياة
الدنيا ، ويشهد الله على ما في قلبه ، هذا في العلن ، في أرواق الصحف
والمجلات ،ومن خلف مكبر المذياع ، وعلى شاشات الفضائيات . أما إذا خلوا ،
واستتروا عن أعين الناس ، وظنوا أن لا أحد يسمعهم ولا يشعر بهم ، واطمأنت
نفوسهم إلى من حولهم ،قلبوا ظهر المجن ، وأظهروا ما أسروه في العلن ،
فصاروا ألد الخصام ، كما جاء فيالحديث عند ابن ماجه ، عن ثوبان ، رضي الله
عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لأعلمن أقواما من أمتي ،
يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا ،فيجعلها الله عز وجل
هباء منثورا ! قال ثوبان : يا رسول الله ، صفهم لنا ، جلهم لنا، أن لا
نكون منهم ونحن لا نعلم ، قال : أما إنهم إخوانكم ، ومن جلدتكم ،
ويأخذونمن الليل كما تأخذون ! ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها
. صححه الألباني. وصدق الله إذ يقول : يخادعون الله والذين آمنوا ، ومايخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون.
هذا
نوع من المتاجرين ، لكنهم تاجروافي الضلالة فاشتروها ، وزهدوا في الهدى
فأعرضوا عنه ، ولم يبذلوا فيه دينارا ولادرهما ، فما ربحت تجارتهم وما
كانوا مهتدين.
هنا وقفة للتأمل ، فإن الآية قررت عدم ربحتجارتهم ، وقررت عدم هدايتهم ، وهما موضوعان مختلفان.
فإنهم
في تجارتهم كانوا يسعون للربح ويقصدونه ، فما ربحوا ،ولم يعبر هنا
بالخسران ، كما عبر في آيات أخر ، لأنهم قد يظهر من أحوالهم أنهممنتصرون ،
وأنهم رابحون ، كعلو في المنزلة ، أو كثرة في المال ، أو رفعة في منصب
أوجاه ، أو غير ذلك ، فقررت الآية أن كل ما يحصل له ، وما يناله المنافق
من زخرفالدنيا ليس ربحا ، قد لا يكون خسارة ، لكنه قطعا ليس ربحا ، إذ قد
يربح من الدنيامتاعا وزخرفا ، وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ،
والآخرة عند ربك للمتقين. فالدنيا
كلها ليست ربحا ، ,عن حازها كلهاأناس ، ولم يكن ذلك أبدا ، بل سماها الله
تعالى ثمنا قليلا ، كما جاءفي آيات أخرى ، فتجارة المنافقين لا تربح.
ثم
قررت الآية عدم هدايتهم ، لأن الذي يسعى إلى الربح لا بدأن يتقن الصنعة ،
وأن يحسن اختيار السلعة ، وأن يعلم أصول التجارة ، وإلا فقد سعىفي خسارته
، ولا يربح في تجارته ، فإن كسب شيئا فإنما هو محض صدفة ، كما يقال :
لاتتكرر ، وقد تكون نتائجها زيادة في جهله ، وتكريسا لخسارته . فجمعت
الآية لهم بينفساد المنهج ، وضلال الطريقة ، وسوء الصنعة والتخبط في ظلمات
الجهل والمكر والخديعة، وكل عاقل يدرك أن هذا الطريق في نهايته مسدود.
وفي
سورة البقرة أيضا إسهاب في قصة موسى مع قومه ، ولليهود في القرآن نبأ عجيب
، وخبر غريب ، يحتاج إلى تأمل وتدبر لا ينقطع، خاصة في زمننا هذا ، مع
تسلط اليهود ، وأتباع اليهود من منافقي هذه الأمة ،المتكلمين بألسنتها ،
والمتدثرين بشعارها.
وما
يهمنا هنا أن الله تعالى بعد أن ذكر بعضا من صفات بنيإسرائيل ، وما أخذ
عليهم من عهد وميثاق ، عقب على ذلك بقوله : أولئك الذين اشترواالحياة
الدنيا بالآخرة . وفي الآية قبلها سر لطيف ، يبين أن اليهود أشد الناس
حرصاعلى إطلاق أسراهم . فلا تتعجبوا من موافقتهم على إطلاق ألف مقابل واحد
، وإن يأتوكمأسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم.
فإذا
جمعت بين الآيتين ، في المنافقين : اشتروا الضلالة بالهدى ، وفي بني
إسرائيل : اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ، تبين لك سر ارتباط القوم بعضهم
ببعض ، والسبب الرئيس في تعاونهم على المسلمين ،فالمنافق يشتري الضلالة ،
يريد الفساد ، يسعى إلى هدم القيم ، ونشر الرذيلة ،وإشاعة الفاحشة ،
واليهودي ، والنصراني ، يشترون الحياة الدنيا ، فهمهم هو الحياةالدنيا ،
فهم أحرص الناس على حياة ، يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ، وما هو بمزحزحه
عنالعذاب أن يعمر ، فقد توعد الله الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة
فقال : فلايخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون.
فالتقت مصالح القوم ، واتفقت أهدافهم ، ذاك يسعى لنيل شهوته، ونشر شبهته ، وذاك يسعى لتعمير دنياه ، ويتمسك بالحياة .
فعثوا
في الأرض فسادا ، بحجج تناغمت ، وطرق تنوعت ، منأهمها تشكيك أهل الحق في
الحق الذي يحملونه ، ولهذا فقد صدرت السورة بصفات المتقين، الذين يهتدون
بالكتاب ، ويؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ، ومما رزقوا ينفقون. وبين
في خاتمة الصفات أنهم على هدى من ربهم . فشتان بين من كان على الهدى ،
ومناشترى الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.
إخوة
الدين والعقيدة : وصنف ثالث ، لا يقل عنهم خطرا ، وهومن أهم أعوان القوم
من المنافقين وأهل الكتاب ، ذكرتها سورة البقرة أيضا ، وهم علماء الضلال ،
وبائعي الدين ، والمتلبسين لباس الزهد والورع ، يكتمون ما أنزل اللهمن
البينات والهدى ، ويكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا .
فهم لا يبينون الحق ولا ينصرونه ، بل الحق عندهم ما حقق مصالحهم ، وما رفع
أرصدتهم ،وما نالوا به من مناصب وجاه ، فتراهم يتقلبون ذات اليمين وذات
الشمال ، حيث دارتمصالحهم داروا ، فيكتمون الحق ، ولا يتكلمون به ، خوفا
على دنياهم ، وسعيا لنيل مبتغاهم ، من حطام الفانية ، وزخرف الحياة الدنيا
، ففتش عن صفاتهم في ثنايا السورةتجدهم في ثنايا قصة اليهود فيها ،
فاليهود هم أصل لعلماء الضلال ، يعلمون الحق ولايعملون به ، ويكتمونه
ويشترون به ثمنا قليلا ، فبئس ما يشترون . ولهذا جاء تهديدعلماء الضلال في
السورة شديدا ، كما قال جل جلاله : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات
والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب ، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم
اللاعنون.وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنهقال : لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدا شيئا ، إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى.
وقال
جل جلاله : إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا
أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا
يزكيهم ، ولهم عذاب أليم ، ثم انظر وصف تجارتهم : أولئك الذين
اشترواالضلالة بالهدى ، والعذاب بالمغفرة ، فما أصبرهم على النار . وجاءت
هذه الآية بعد قوله تعالى : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما
أهل به لغير الله ،وذلك تحذير المسلمين مما أحدثه أهل الكتاب في تحليل بعض
ما حرم الله ، أو تحريم بعضما أحل الله ، وفي الحديث المشهور في مسند أحمد
: من سئل عن علم فكتمه ، ألجم يومالقيامة بلجام من نار