الصحافة
مهنة مغرية تدفع بالعاملين فيها على الإدمان عليها. إنها مهنة متعبة خاصة
عندما يلحقها الأذى من بعض العاملين فيها ممن يتوقع منهم الحفاظ عليها، أو
من بعض الأنظمة التي ترى فيها مصدر خطر يهدد وجودها، فتسعى تلك الأنظمة-
ومعظمها أنظمة حكم شمولية- إلى فرض رقابة صارمة على الصحافة ومحاولة
السيطرة عليها. على الرغم من ذلك، تبقى الصحافة مهنة مشرفة لأن غايتها
نبيلة وهي نشر المعلومة، ومنها الخبر والتعليق والرأي، للجميع وعلى نطاق
واسع، وهي مهمة يحتاجها، بل يعتمد عليها، أي مجتمع ديمقراطي أو في طريقه
إلى إحلال الديمقراطية.
وظيفة الصحافة هي ما يحدد تعريفها. إنها في أفضل ممارساتها:
فن من فنون الديمقراطية، فالصحفيون يقدمون الأخبار والتحليلات التي من
خلالها يتصل أفراد أي مجتمع فيما بينهم، ويعرفون الآخرين بأنفسهم وأعمالهم
وإنجازاتهم ومواقفهم من أحداث العالم وتطوراتها. من خلال الصحافة أيضا،
يكون المواطن أكثر وعيا بمشاركته في بناء الدولة وترسيخ قيم المجتمع الذي،
من على صفحات الصحف، يناقش كيفية إصلاح قوانينه ومناقشة خطط مستقبله.
أما وظيفة الصحافة، في أسوأ حالاتها، فهي فن الديماغوجية
والطغيان. تصبح وسيلة المصالح المهيمنة التي تخرب المجتمع عن طريق محاكاة
قنوات المعلومات. تهبط الصحافة عندما تقع في أيدي إعلام لا يلتزم بأصول
وأخلاق المهنة وحين يعتمد الصحفيون والمحررون على مجرد قصص للترفيه فقط.
تنحط الصحافة عندما تطغى غاية الربح على مهماتها الديمقراطية.
يقول الصحفي وأستاذ الصحافة الكندي "ستيفن وارد" في
كتابه(اختراع أخلاق الصحافة: الطريق إلى الموضوعية وما وراءها) (2004):
"تصبح الصحافة هابطة حين تبحث عن الفائدة من خلال حيل رخيصة عبر طرح
النعرات القومية والطائفية وموضوعات الإثارة أو خلق الفزع بطريقة متعمدة
تافهة. تصبح الصحافة فنا مضادا للديمقراطية عندما تستخدم المؤسسات الخبرية
الصحافة من دون شعور بالمسؤولية، وعندما يوظف الصحفيون مسؤوليتهم المهنية
من أجل المال والشهرة."
المعيار الرئيس في أخلاق الصحافة هو الحقيقة، لأن ذلك هو
المبدأ الذي تسعى إليه الصحافة وطريقها إلى تجسيد الديمقراطية. الدكتور
محمود عيد، الأستاذ في قسم الاتصالات في جامعة أوتاوا، يؤكد في مقالة له
بالانجليزية في موقع
تستطيع وسائل الإعلام لعب دور مؤثر في السياسات الحكومية من
خلال تقديم الحقيقة. سلوك العقلانية يحتم على وسائل الإعلام أن تكون
صادقة، وتلتزم المبادئ الأخلاقية، ولا تعتمد على تصريحات وبيانات عمياء من
قبل الحكومات أو السلطات العسكرية، وبدلا من ذلك، الحصول على معلومات من
مصادر مختلفة جرى التحقق منها لضمان صحة هذه المعلومات قبل نقلها إلى
الجمهور. الالتزام بالحقيقة يجعل الجمهور على ثقة بأن ما تقوله وسائل
الإعلام هو الصحيح. وإذا ما وجدت الجماهير أن وسائل الإعلام تؤكد أن
"السلطات تقوم بإخفاء الحقائق" ، أو أنه (لا توجد وسائل للحصول على
المعلومات) ، فإن الجماهير ستعتقد أن الحكومة تفعل شيئا خطأ، لأن الحكومة
في هذه الحالة تخشى قيام وسائل الإعلام في التدقيق والبحث عن الحقيقة. إن
مصداقية وسائل الإعلام وقول الحقيقة للجماهير يعطيها سلطة على السلطات،
أما إذا شوهت وسائل الإعلام الحقيقة فهي لا تفقد فقط مصداقيتها أمام
الجمهور بل أيضا مع السلطات."
بيل موير، رئيس مركز (Schumann) الأميركي للإعلام
والديمقراطية، والذي عمل فترة ناطقا صحفيا في البيت الأبيض، كان يؤكد
للعاملين معه "هنالك شيء أكثر أهمية من الصحافة، وذلك الشيء هو الحقيقة"
ويقول للصحفيين الشباب: "قد تكون هنالك فروق بين الصحفيين، لكن تبقى
الحقيقة فوق كل ذلك، وأنتم إذا لا تستطيعون الوصول إلى الحقيقة من خلال
الصحافة، فعليكم البحث عن سبل أخرى."
ومن الأمثلة التي يستشهد بها موير في حديثه عن الصحافة
والحقيقة هو "رون رايدناور" الذي سلط الأضواء على مذبحة "ماي لاي" في
فيتنام (1969). لم يكن رايدناور صحفيا حينها بل كان جنديا في القوات
الأميركية تحدى قوة حكومة الولايات المتحدة وآلتها الحربية، أما فيما بعد،
وبفضل الحقيقة لا غيرها، فقد أصبح واحدا من رواد الصحفيين المحققين، حتى
أن المعهد الوطني الأميركي للصحافة خصص جائزة سنوية باسمه. ( In These
Times)
الصحفي في عمله في مؤسسة إعلامية لا يوقع تعهدا بالحفاظ على
أخلاق المهنة ولا يؤدي قسما بأداء واجبه بأمانة، لأن واجبات الصحافة
بديهية مثل ضرورة الحديث دائما بصدق وتجنب العنف غير المبرر مع الآخرين.
الواجبات الأخلاقية في مهنة الصحافة تنبع من الدور الاجتماعي المحدد
للصحفيين، ويمكن تعريف هذا الدور بعقد بين الصحفيين ومجتمعهم. يوازن
الصحفيون في هذا العقد الاجتماعي بين الحريات والمسؤوليات والاستقلالية،
يكرسون أنفسهم لتقديم المعلومة الصادقة، تماما كما يكرس الأطباء أنفسهم في
معالجة الناس.
يؤمن الصحفيون بقوة بالصحافة الحرة المستقلة، الحرة من سيطرة
الحكومة ونفوذ المصالح الخارجية. هذا الإيمان يسند بشكل كبير فكرة أن
الصحفيين يجب أن يكونوا مسؤولين أمام المجتمع وأن من حق المجتمع معرفة
الحقائق. يكاد معيار الدقة والإنصاف أن يكون عالميا، كما أن التفريق بوضوح
بين الخبر والإعلان هو من المبادئ الأساسية التي لا بد منها.
يرى (H. Eugene Goodwin) أستاذ مادة الصحافة في جامعة
بنسلفانيا في كتابه "التماس الأخلاق في الصحافة"، أن هنالك مشاكل أخلاقية
في حقل التعامل مع القضايا الخبرية المهمة في الصحافة "مثال على ذلك، إذا
حاولت كتابة القصة الكاملة لحدث، فلعل شخصا ما سيتعرض للأذى. لعلك تؤمن
بأن من حق الناس معرفة كل شيء تقوم به حكومتهم، ولكن ماذا عن الأشياء التي
يهدد كشفها الأمن الوطني؟ لعلك تعتقد بأن من حق الناس معرفة المصادر التي
استقيت منها المعلومات التي تطبعها أو تذيعها، ولكن ماذا تفعل إذا كنت قد
اتفقت أن لا تكشف هوية مصدر معلوماتك الوحيد؟ معظم العاملين في حقل
الصحافة يحرصون على حفظ أنفسهم مستقلين ويتفادون نزاعات المصالح، لكن هل
يعني ذلك أن تدير ظهرك لحياة مجتمعك؟ القرار الأخلاقي يدخل في ميزان صراع
المبادئ والقيم."
يقترح (غودون) وضع الأمور التالية في الاعتبار عند مواجهة مشكلة أخلاقية في العمل الصحفي:
ما الذي نفعله عادة في حالات كهذه؟
من الذي سيتعرض للأذى ومن الذي يساعده الخبر؟
هل هنالك بديل أفضل؟
هل تستطيع التطلع إلى نفسك في المرآة ثانية لكي تتبين أن قرارك ليس شخصيا بحتا؟
هل يمكنك تبرير ذلك للناس الآخرين؟
ما المبدأ أو القيمة التي تحاول تقديمها لقرائك أو مستمعيك؟
ربما لا يفعل الصحفيون ذلك، لكن الفكرة قد تساعدهم للوصول إلى قرار أخلاقي بطريقة منطقية.