بسم الله الرحمن الرحيم
السؤال:
ما هو شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه :
( آية المنافق ثلاث ، إذا حدث كذب
وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان )
وحديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين أيضا فيه زيادة : ( وإذا خاصم فجر ، وإذا عاهد غدر )
ما معنى :
( إذا خاصم فجر ) ؟
نرجو التوضيح ، وجزاكم الله خيرا
الجواب :
الحمد لله
يمكن أن نتكلم على هذين الحديثين
بالمسائل المختصرة الآتية :
أولا :
نص الحديثين
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
( آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ
وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ )
رواه البخاري (33) ومسلم (59)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(
أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ
فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى
يَدَعَهَا : إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا
عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ )
رواه البخاري (34) ومسلم (58)
ثانيا :
معنى كون هذه الصفات من علامات النفاق
الكذب ، وإخلاف الوعد ، والخيانة ، والغدر
والفجور عند المخاصمة :
من أبرز صفات المنافقين من أهل المدينة
الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
والقرآن مليء بالآيات التي تصف حالهم هذا
وهم إنما عرفوا بها
، والله عز وجل يقول :
(
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
أَعْمَالَكُمْ ) محمد/30
فإذا اتصف أحد المسلمين - الذين يشهدون بكلمة التوحيد - بشيء من هذه الصفات : فقد اتصف بصفات المنافقين
التي ذمها الله عز وجل ، وعمل أعمالهم ،
وحصل له من النفاق بقدر ما عمل .
ولكن ذلك لا يستلزم أن يكون هذا المسلم المتصف
بالخيانة أو الكذب مثلا قد خرج عن الإيمان بالكلية ؛
لأن الإيمان يرفعه درجات عن النفاق ،
ولكنه يحاسب على هذه الأخلاق الذميمة ،
ولذلك يسمِّي العلماء هذه الآفات المهلكات بـ :
" النفاق العملي "
يقصدون أن المتصف بها آثم مستحق للعقوبة
ولكنه ليس في درجة المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر .
ولذلك ذهب العلماء في تأويل هذا الحديث
إلى خمسة أقوال :
1- المقصود بالحديث هو تشبيه المسلم المتصف
بهذه الأخلاق الذميمة بالمنافق ،
فالحديث على سبيل المجاز
وليس على سبيل الحقيقة ،
وهذا جواب النووي .
2- المقصود بالنفاق هنا النفاق العملي
وليس النفاق الاعتقادي
وهذا جواب القرطبي
ورجحه الحافظ ابن رجب
والحافظ ابن حجر العسقلاني
وهذا أرجح الأقوال .
3- وقيل المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير
عن ارتكاب هذه الخصال
وهذا ارتضاه الخطابي
4- المراد : من اعتاد هذه الصفات حتى أصبحت
له سجية وخلقا دائما ، حتى تهاون بها، واستخف أمرها
فهذا كأنه مستحل لها ، ومثله يغلب عليه فساد الاعتقاد
5- المقصود بالحديث ليس المسلمين ،
وإنما المنافقون الحقيقيون الذين كانوا على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم ،
ولكن ضعَّف هذا الوجه الحافظ ابن رجب في
"جامع العلوم والحكم" (1/430)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قال النووي : هذا الحديث عده جماعة من العلماء مشكلا من حيث إن هذه الخصال قد توجد في المسلم المجمع على عدم الحكم بكفره . قال :
وليس فيه إشكال ، بل معناه صحيح
والذي قاله المحققون إن معناه :
أنَّ هذه خصال نفاق ، وصاحبها شبيه بالمنافقين
في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم
قلت – أي الحافظ ابن حجر - :
ومحصل هذا الجواب الحمل في التسمية على المجاز ، أي : صاحب هذه الخصال كالمنافق ،
وهو بناء على أن المراد بالنفاق نفاق الكفر
وقد قيل في الجواب عنه :
إن المراد بالنفاق نفاق العمل كما قدمناه
وهذا ارتضاه القرطبي واستدل له بقول عمر لحذيفة :
هل تعلم فيَّ شيئا من النفاق ؟ فإنه لم يرد بذلك نفاق الكفر وإنما أراد نفاق العمل
ويؤيده وصفه بالخالص في الحديث الثاني بقوله :
( كان منافقا خالصا )
وقيل : المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال ، وإن الظاهر غير مراد ، وهذا ارتضاه الخطابي .
وذكر
أيضا أنه يحتمل أن المتصف بذلك هو من اعتاد ذلك وصار له ديدنا . قال :
ويدل عليه التعبير بإذا ، فإنها تدل على تكرر الفعل . كذا قال .
والأولى ما قال الكرماني :
إن حذف المفعول من " حدث "
يدل على العموم ،
أي: إذا حدث في كل شيء كذب فيه
أو يصير قاصرا
أي إذا وجد ماهية التحديث كذب
وقيل : هو محمول على من غلبت عليه هذه الخصال
وتهاون بها ، واستخف بأمرها ، فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالبا
وهذه الأجوبة كلها مبنية
على أن اللام في المنافق للجنس .
ومنهم من ادعى أنها للعهد فقال :
إنه
ورد في حق شخص معين ، أو في حق المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
، وتمسك هؤلاء بأحاديث ضعيفة جاءت في ذلك لو ثبت شيء منها لتعين المصير
إليه .
وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي . والله أعلم " انتهى.
" فتح الباري " (1/90-91)
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله :
" الذي فسره به أهل العلم المعتبرون
أن النفاق في الشرع ينقسم إلى قسمين :
أحدهما النفاق الأكبر
وهو
أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ويبطن
ما يناقض ذلك كله أو بعضه ، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم ، وأخبر أن أهله في
الدرك الأسفل من النار
والثاني : النفاق الأصغر ، وهو نفاق العمل :
وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة ،
ويبطن ما يخالف ذلك .
وحاصل
الأمر : أن النفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية كما قاله
الحسن ، والنفاق الأصغر وسيلة إلى النفاق الأكبر ، كما أن المعاصي بريد
الكفر ، وكما يخشي على من أصر على المعصية أن يُسلب الإيمان عند الموت ،
كذلك يخشي على من أصر على خصال النفاق أن يسلب الإيمان فيصير منافقا خالصا
.
وسئل الإمام أحمد :
ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق ؟
قال : ومن يأمن على نفسه النفاق " انتهى باختصار.
" جامع العلوم والحكم " (1/429-432)
ثالثا : أخلاق المنافقين المذمومة
هذه ليست على سبيل الحصر
وإنما على سبيل المثال .
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" وجه الاقتصار على هذه العلامات الثلاثة أنها منبهة على ما عداها ، إذ أصل الديانة منحصر في ثلاث :
القول ، والفعل ، والنية
فنبَّه على فساد القول بالكذب ، وعلى فساد الفعل بالخيانة ، وعلى فساد النية بالخلف " انتهى.
" فتح الباري " (1/90)
رابعا : معنى الفجور عند المخاصمة
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله :
" ( إذا خاصم فجر ) يعني بالفجور :
أن يَخرج عن الحق عمدا حتى يصيِّرَ
الحق باطلا والباطل حقا ،
وهذا مما يدعو إليه الكذب ،
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( إياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار )
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم )
فإذا كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة –
سواء كانت خصومته في الدين أو في الدنيا –
على أن ينتصر للباطل ، ويخيل للسامع أنه حق
ويوهن الحق ، ويخرجه في صورة الباطل
كان ذلك من أقبح المحرمات ، وأخبث خصال النفاق
وفي سنن أبي داود عن ابن عمر
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع )
وفي رواية له أيضا :
( ومن أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله )" انتهى باختصار.
" جامع العلوم والحكم " (1/432)
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" ( إذا خاصم فجر ) الخصومة :
هي المخاصمة عند القاضي ونحوه ، فإذا خاصم فجر
والفجور في الخصومة على نوعين :
أحدهما : أن يدعي ما ليس له
والثاني : أن ينكر ما يجب عليه
مثال الأول : ادعى شخص على آخر فقال عند القاضي :
أنا
أطلب من هذا الرجل ألف ريال ، وهو كاذب ، وحلف على هذه الدعوى ، وأتى
بشاهد زور ، فحَكَم له القاضي ، فهذا خاصم ففجر ؛ لأنه ادعى ما ليس له ،
وحلف عليه
مثال الثاني : أن يكون عند شخص ألف ريال
فيأتيه صاحب الحق فيقول : أوفني حقي
فيقول : ليس لك عندي شيء
فإذا
اختصما عند القاضي ولم يكن للمدعى بينة حلف هذا المنكر الكاذب في إنكاره
أنه ليس في ذمته له شيء ، فيحكم القاضي ببراءته ، فهذه خصومة فجور ،
والعياذ بالله .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( من حلف على يمين صبر ليقتطع بها حق امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ) نعوذ بالله
وهذه الخصال الأربع إذا اجتمعت في المرء كان منافقا خالصا ؛ لأنه استوفى خصال النفاق والعياذ بالله ،
وإذا كان فيه واحدة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها " انتهى باختصار.
" شرح رياض الصالحين " (4/49-50)
خامسا : في هذا الحديث دليل على
أن المسلم قد تجتمع فيه خصال الخير والشر
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" فيه أيضا دليل على أن الإنسان قد يجتمع فيه خصال إيمان وخصال نفاق
لقوله : ( كان فيه خصلة من النفاق )
هذا مذهب أهل السنة والجماعة : أن الإنسان يكون فيه خصلة نفاق وخصلة فسوق ، وخصلة عدالة ، وخصلة عداوة
وخصلة
ولاية ، يعني أن الإنسان ليس بالضرورة أن يكون كافرا خالصا ، أو مؤمنا
خالصا ، بل قد يكون فيه خصال من الكفر وهو مؤمن ، وخصال من الإيمان " انتهى
" شرح رياض الصالحين " (4/50)
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب