لم يعد الإنترنت يمثل إنجازاً جديداً أو
غريباً على مجتمعاتنا العربية، فقد انتشر استخدامه بصورة واسعة من قبل
الأفراد والمؤسسات خلال السنوات العشر الأخيرة، ووجد كل طرف في هذا
الاختراع فائدة عظيمة لم تنل من أهميتها أصوله الغربية، التي يدّعي قلة من
العرب محاربتها بأساليب موتورة أو عنيفة، وأغلبها دونكيشوتي. ولأن الثقافة
العربية بكل فروعها أخذت نصيبها من الإنترنت في مجال النشر والتعريف
بالإبداع العربي الحديث على أيدي أفراد قلة، تميزوا بالمثابرة والعمل
بصمت، وحتى لا يقال إن الكسل والإهمال سمتان عامتان في المنطقة العربية
يضيع في أتونهما الجهد الإنساني الساعي إلى التطور، سوف نلقي الضوء على
المرحلة الأخيرة التي وصلها النشر الثقافي العربي على الإنترنت، ما حققه
بموازاة وسائل النشر الأخرى من صحف ومجلات، وما يمثله بالنسبة للمستقبل.
في
بداية التسعينات من القرن الماضي التفت عدد من المثقفين العرب إلى
الإنترنت كأداة حديثة للتعريف والحصول على المعلومات، ومع ظهور البريد
الإلكتروني اكتملت العناصر المشجعة على التواصل ونشر الإبداع بكل أنواعه،
وحتى أواخر التسعينات بقي النشر متردداً، أي مقتصراً على مواقع فردية
تتضمن مقتطفات قصيرة من الشعر والقصة، لكن مع انتشار استعمال الكومبيوتر
ثم الإنترنت في المنطقة العربية ظهرت مواقع النشر الأدبي المشترك، وتحميل
النصوص الكاملة والطويلة من الرواية والمسرحية والقصص والقصائد والنقد.
ولأن
المؤسسات الرسمية بطبيعتها لا تستجيب بسرعة للتطور لأنها أسيرة الروتين
والعلاقات الضيقة، قدمت الدول العربية نفسها من خلال مواقع للتعريف صغيرة
في حجم موادها وعدد صفحاتها ومستقرة، أي يضاف إليها جديد، بينما تضاعف عدد
المواقع الفردية في بداية الألفية الثالثة مئات المرات، لأن تقديم الشركات
برامج سهلة الأداء لتصميم المواقع سمح للمثقفين الشبّان بإطلاق كل منهم
موقعه الخاص الذي يتضمن نتاجه الشعري أو القصصي.
لكن
التطور المهم حدث عندما نقلت المجلات والدوريات الثقافية المطبوعة موادها
الأدبية إلى الإنترنت، حيث ظهرت مواقع خاصة بكل مطبوعة تحمل النصوص
المنشورة فيها، وبسبب الإمكانات المادية المتوفرة لهذه المطبوعات أصبح عرض
المواد وترتيب العناوين والدخول إلى النصوص سهلاً ومتميزاً، أي تحسن تصميم
المواقع وانتظم نشاط الأزرار وعناوين الربط للوصول بسهولة وبسرعة إلى
النص. وجاءت هذه النقلة من الدول العربية الخليجية والمملكة السعودية
لكثرة إقبال المواطنين فيها على اقتناء الكومبيوتر وربط أجهزتهم بخطوط
البث الإلكتروني العالمي.كان سباق هذه المطبوعات الورقية للإعلان عن نفسها
قد سمح لقارئ الإنترنت بالاطلاع على مواد أدبية جيدة وهو داخل بيته.
إلاّ
أن هذه المجلات كانت تنشر لكتّابها فقط وتعرّف بهم، وفي الحقيقة هذه هي
مهمة كل مجلة أدبية، وفي نفس الوقت أصبح لكل جريدة يومية أو أسبوعية
موقعها الخاص الذي ينقل مادتها بصورة يومية منتظمة إلى قارئ الإنترنت،
وبهذا استفاد القارئ السياسي والمثقف من هذا الإنجاز الكبير، لأن الصحف
تقدم المواد والأخبار الثقافية بجزالة، وتنوّع ما تقدمه باستمرار، وتنشر
المقابلات مع الأدباء والتحقيقات لتناول ظاهرة ثقافية معينة، كما تقبل
الرأي من الخارج، وتنشر النصوص الأدبية المترجمة، والصحف أكثر انتشاراً من
المجلات الأدبية الشهرية والدورية. وبموازاة هذا العمل الثقافي المهم التي
تقوم به الصفحات الثقافية تأسست مواقع على الإنترنت تؤدي نفس الدور
الثقافي، وتضيف إليه الطابع شبه التوثيقي الذي لا يمكن للصفحات الثقافية
القيام به بشكل يومي. وأهم من كل ذلك تعمل على وصل العرب المقيمين في
الخارج بأصولهم الثقافية، وهذا ما سنشرحه بالتفصيل.
يمكن
اعتبار مجلة (المهاجر) الإلكترونية
http://www.almouhajer.com وموقع
(القصة العراقية)
http://www.iraqstory.com أكثر المواقع تخصصاً وحرفية في
مجال النشر الثقافي العربي على الإنترنت، وقد انطلقت (المهاجر) من كندا
وشملت كتابات العرب المقيمين شمال القارة الأميركية، ثم وسعت صفحاتها
لتحتضن النتاج الإبداعي لكل العرب المنتشرين في العالم. وبدأت المهاجر
وتوسعت لتتحول إلى مؤسسة ثقافية تحمل اسم (جذور)
http://www.jozoor.netعلى أيدي أربعة شعراء، ثلاثة من أصل سوري هم لطفي حداد وفادي سعد وجاكلين
سلام وشاعر كويتي هو محمد النبهان. وكانت الرغبة في تعريف القارئ في
المنطقة العربية وبقية العالم بالنشاط الثقافي للمهاجرين وراء إنشاء هذا
الموقع، الذي أصبح الآن يتلقى النتاج الأدبي والثقافي لعدد كبير من
الأقلام العربية من شعر وقصة ورواية وفنون تشكيلية وسينما، ويشترك موقع
(المهاجر) مع موقع (القصة العراقية) بالاهتمام بترجمة النصوص الأدبية عن
اللغات الأخرى وتقديمها للقارئ، فأصبح بإمكاننا الإطلاع من خلال هذين
الموقعين على أحدث ما يكتبه الشعراء والقاصون في كندا وأميركا والسويد
والنمسا وألمانيا والنرويج والدانمارك وفنلندة وفرنسا وإيطاليا ودول أخرى،
يقوم بالترجمة عنها مثقفون عرب ممن عاشوا في تلك البلدان وتعلموا لغاتها
واطلعوا على الإبداع الجديد والقديم فيها.
ويشترك
القائمون على الموقعين المذكورين في أنهم غير متفرغين، أي أنهم يؤدون
أعمالاً أخرى يعيشون من ورائها، ويسهرون بعد عودتهم من العمل على تحرير
المواد الجديدة وتحميلها (التحديث اليومي) والاتصال بالكتاب، والترجمة،
وما إلى ذلك من جهد صحافي ثقافي يتطلب الوقت والمتابعة.
موقع
(القصة العراقية) أسسه الكاتب جاسم المطير، ويشرف عليه ويحرر مواده الكاتب
عدنان المبارك، ويقوم بأعمال التصميم والتحديث سمير المبارك. وبالقياس إلى
ما قدمه هذا الموقع من مواد أدبية غزيرة، وترجمة، لا تقتصر على القصة
العراقية وحدها كما يوحي عنوانه، إنما تشمل الرواية والمسرح والشعر والنقد
والمقابلات والسينما والرسم لمبدعين من كل الجنسيات العربية، فإن (القصة
العراقية) يذكر له بالنشاط الثقافي الكبير الذي يوازي ما تقوم به الصفحات
الثقافية في أهم الصحف العربية اليومية.
مع
هذين الموقعين، توجد مواقع ثقافية أخرى مختصة بالأدب مثل (ألواح)
http://www.alwah.com/ وكيكا
http://www.kikah.com/ وشظايا أدبية
http://www.shathaaya.com/ وبيت الشعر في المغرب
http://www.albayt.org.ma/ وهذه المواقع مرتبطة بمجلات أدبية ورقية.
لكن
المنطقة العربية تقدم نماذج مشابهة لما يقوم به (المهاجر) و(القصة
العراقية) من تخصص أدبي وثقافي، وذلك عبر موقعي رابطة أديبات الإمارات
http://www.alrabetta.ae/ وشبكة المرايا الثقافية
http://www.almraya.net/اللذين انطلقا من دول الإمارات العربية المتحدة، حيث عملت الكاتبة سارة
النواف مع نخبة صغيرة من زملائها على مدى أربع سنوات لإعداد دليل الأدباء
العرب (بيبليوغرافيا) للتعريف بعدد كبير من الكتّاب العرب، حياتهم ونبذة
من أعمالهم.
ويستقبل
الموقعان المذكوران نتاج الكتّاب العرب من المنطقة العربية والخارج،
وينفتحان على الآراء والنقاش، ويحتضنان نتاج الشبّان والشابات المبتدئين،
مما يشجع على احتمالات بروز كتابات جيدة في المستقبل، ويعتمدان أيضاً على
جهود فردية غير متفرغة. وتوجد مواقع عربية أخرى منفتحة على النشاط
الثقافي، لكن اهتمامها الأول سياسي مثل إيلاف
www.elaph.com كذلك يمتاز
موقع اتحاد الكتاب العرب
http://www.awu-dam.org/ بغزارة مواده وتحديثها
باستمرار.
الآن كيف نقيّم نشاط هذه المواقع من الناحية الثقافية؟
في
الثمانينات من القرن الماضي، ونتيجة عدم الاستقرار الذي ساد عددا كبيرا من
الدول العربية، هاجر آلاف المواطنين العرب إلى أوربا والقارة الأميركية
وبدأوا حياة جديدة هناك، ثم عمل تفشي البطالة في التسعينات على رحيل موجات
جديدة أكثر عدداً انتشرت على جميع القارات من استراليا إلى أميركا
اللاتينية، وكان بين الملايين المهاجرة مئات المثقفين والأدباء المعروفين،
والآلاف ممن يهتمون بالكتابة لكنهم ما زالوا شباباً.
وولد
لهؤلاء المهاجرين العرب جيل نشأ وتربى في الخارج، وحصل على تعليم جيد ولغة
البلد الذي يعيش فيه آباؤه. وكان هذا العدد الهائل من المهاجرين العرب
بحاجة إلى من يعرّفهم، إن لم نقل يربطهم بثقافة آبائهم الأصلية، ليس قسراً
كما يفعل البعض، إنما من خلال نماذج ثقافية وبأسلوب قوامه الترغيب
والاطلاع، ولم تكن الصحف الصغيرة التي ظهرت في الخارج تكفي لهذه المهمة،
لأنها غير مستمرة الصدور، وتهتم بالسياسة المعارضة أكثر من اهتمامها
بالثقافة، ورغم أن الصحف الكبرى التي تصدر في لندن توزع في كل عواصم
العالم، إلاّ انها لا يمكن ان تتوفر لملايين المهاجرين الذين توزعوا على
المدن الثانوية والصغيرة، وينشغل أبناؤهم بالدراسة ومراقبة تلفزيون
البلدان التي يعيشون فيها، لا يحصلون لذلك جاء ظهور الإنترنت بما يمكن أن
نطلق عليه الغواية الكبرى لهؤلاء الأبناء، وللآباء أيضاً.
يمكن
لمواقع الإنترنت العربية خدمة العرب المهاجرين عبر وصلهم بلغتهم، لكن
المواقع المتخصصة بالثقافة بشكل عام والأدب بشكل خاص، تقوم بدور بارز ومهم
في وصل الإبداع العربي في الخارج بمثيله في المنطقة العربية، كما تعمل على
تجديد الأدب العربي ومدّه بقدرات شابة وجديدة.
* مترجمة ومختصة في علوم الكومبيوتر
وإدارة المعلومات