أولآً: تعريف المجاز.
المَجَازُ اللّغَويُّ: هُوَ اللفظُ المُسْتعْمَلُ في غير ما وُضِعَ لَه لِعَلاقة مع قَرينةٍ مانِعةٍ مِنْ إِرادَةِ المعْنَى الحقيقي.
والعَلاقةُ بَيْنَ الْمَعْنَى الحقيقي والمعنى المجازيِّ قدْ تكونُ المُشَابَهةَ، وقد تكونُ غيرَها، والقَرينَةُ قد تكونُ لفظيةً وقد تكونُ حَالِيَّةً.
وهذا ما سوف نتناوله بالشرح و التفصيل من خلال الأمثلة الآتية:
المثال الأول:
قال ابنُ العَمِيد في الغزل:
قَامَتْ تُظَلِّلُنِي مِنَ الشَّمْسِ ... نَفْسٌ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ نَفْسِي
قامَتْ تُظَلِّلُنِي ومِنْ عجَبٍ ... شَمْسٌ تُظَلِّلُنِي مِنَ الشَّمْسِ
انظر إِلى الشطر الأَخير في البيتين السابقين، تجد أنَّ كلمة "الشمسِ " استعملت في معنيين:
أحدُهما المعنى الحقيقي للشمس التي تعرفها، وهي التي تظهر في المشرق صبحاً وتختفي عند الغروب مساءً.
والثاني إنسانٌ وضاءُ الوجه يشبه الشمسَ في التلأْلؤ، وهذا المعنى غير حقيقي.
وإِذا تأملتَ رأيتَ أنَّ هناك صِلَةً وعلاقةً بين المعنى الأصليِّ للشمس والمعنى العارضِ الذي اسْتُعْمِلَتْ فيه. وهذه العلاقة هي المشابهةُ، لأَنَّ الشخص الوضيءَ الوجه يُشْبِه الشمس في الإِشراق.
ولا يمكن أن يلتبس عليك الأَمر فتَفْهَم منْ "شمس تظللني" المعنى الحقيقي للشمس، لأَنَّ الشمس الحقيقية لا تُظَلِّل، فكلمة تظللني إِذا تمنع من إِرادة المعنى الحقيقي، ولهذا تسمَّى قرينةً دالةً على أَنَّ المعنى المقصودَ هو المعنى الجديدُ العارضُ.
المثال الثاني:
قال البحتريُّ يَصِف مبارزة الفَتْح بن خاقان لأسد:
فلَمْ أرَ ضِرْغَامَينِ أصْدَقَ منكُمَا عرَاكاً إذا الهَيّابَةُ النّكسُ كَذّبَا
هِزَبْرٌ مَشَى يَبغي هِزَبْراً، وأغلَبٌ منَ القَوْمِ يَغشَى بَاسلَ الوَجهِ أغلَبَا
إذا تأَملت البيت الثاني للبحتريِّ رأَيت أنَّ كلمة "هِزَبْرًا" الثانية يراد بها الأَسد الحقيقي، وأنَّ كلمة "هزبر" الأُولى يراد بها الممدوحُ الشجاعُ، وهذا معنى غير حقيقي.
ورأيت أنَّ العلاقة بين المعنى الحقيقي للأسد والمعنى العارض هي المشابهةُ في الشجاعة.
وأنَّ القرينة المانعةَ من إرادة المعنى الحقيقي للأَسد هي أنَّ الحال المفهومةَ من سياق الكلام تدلُّ على أنَّ المقصود المعنى العارض.
ومثل ذلك يقال في "أغْلب من القَوْم" و "باسِل الوَجْه أغْلبا" فإِن الثانية تدلُّ على المعنى الأصلي للأسد، والأولى تدل على المعنى العارض وهو الرجلُ الشجاع والعلاقة المشابهةُ، والقرينةُ المانعة من إرادة المعنى الأَصلي هنا لفظيةٌ وهي "من القوم".
المثال الثالث:
قال المتنبي وقد سقط مطرٌ على سيف الدولة :
لِعَيْني كُلَّ يَومٍ مِنْكَ حَظُّ … …تَحَيَّرُ مِنْهُ فِي أمْرٍ عُجابِ
حِمَالةُ ذَا الحُسَام عِلى حُسامٍ … …وَمَوْقِعُ ذَا السَّحَابِ على سَحَابِ
تستطيعُ بعد هذا البيان أنْ تدرك في البيت الثاني للمتنبي أنَّ كلمة "حسام" الثانية استعملتْ في غير معناها الحقيقي لعلاقة المشابهة في تَحمُّل الأَخطار.
والقرينةُ تُفهم منَ المقام فهي حالِيةٌ، ومثل ذلك كلمة "سحاب" الأَخيرة فإِنها استعملتْ لتدلَّ على سيف الدولة لعلاقة المشابهةِ بينه وبين السحابِ في الكرم، والقرينةُ حالِيَّةٌ أيضاً.
المثال الرابع:
قال البحتريُّ:
إذا العَينُ رَاحتْ وَهيَ عَينٌ على الجَوَى، فَلَيْسَ بسِرٍّ ما تُسِرُّ الأضَالِعُ
بيتُ البحتري هذا معناه أنَّ عين الإنسان إِذا أصبحت بسبب بكائها جاسوساً على ما في النفس من وجْدٍ وحُزْن؛ فإنَّ ما تَنْطَوِي عليه النفسُ منهما لا يكون سرًّا مكتوماً؛ فأَنت ترى أنَّ كلمة "العين" الأولى استعملت في معناها الحقيقي وأنَّ كلمة "عين" الثانية استعملت في الجاسوسِ وهو غير معناها الأصلي، ولكنْ لأَنَّ العين جزءٌ من الجاسوس وبها يَعْملُ، أطلقَها وأراد الكلَّ شأنَ العرب في إِطلاق الجزء وإِرادة الكلِّ.
وأَنت ترَى أنَّ العلاقة بين العين والجاسوس ليست المشابهةَ وإنما هي الجزئيةُ.
والقرينةُ "على الجوى" فهي لفظيَّةٌ.
ويتَّضحُ منْ كل ما ذكرنا أنَّ الكلماتِ: (شمسٌ، وهِزَبْرٌ، وأغْلبُ، وحُسامٌ، وسحابٌ، وعينٌ) ، استُعملت في غير معناها الحقيقي لعلاقةٍ وارتباطٍ بين المعنى الحقيقي والمعنى العارضِ وتسمَّى كلُّ كلمة من هذه( مجازاً لغويًّا).
===========
ثانيا: أقسام المجاز:
ينقسم المجاز إلى قسمين هما :
1 ـ لغويّ، وهواستعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة ـ أي مناسبة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ـ ويكون الاستعمال لقرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، وهي قد تكون:
لفظيّة، وقد تكون حاليّة، وكلّما أطلق المجاز، انصرف إلى هذا المجاز وهو المجاز اللغوي.
2 ـ عقلي، وهو يجري في الإسناد، بمعنى أن يكون الإسناد إلى غير من هو له، نحو:
(شفى الطبيب المريض) فإن الشفاء من الله تعالى، فإسناده إلى الطبيب مجاز، ويتمّ ذلك بوجود علاقة مع قرينة مانعة من جريان الإسناد إلى من هو له.
=============
( أ ) المجاز العقلي
المجاز العقلي: وهو الذي يجري في الإسناد، بمعنى أن يكون الإسناد إلى غير من هو له، ويتمّ ذلك بوجود علاقة مع قرينة مانعة من جريان الإسناد إلى من هو له نحو:
(شفى الطبيب المريض) فإن الشفاء من الله تعالى، فإسناده إلى الطبيب مجاز،والعلاقة هنا أن الطبيب سبب للشفاء, والقرينة المانعة من جريان الإسناد إلى الطبيب : أ، الشفاء لا يكون إلا من الله تعالى.
أقسام المجاز العقلي:
المجاز العقلي على قسمين:
الأول: المجاز في الإسناد، وهو إسناد الفعل أو ما في معنى الفعل إلى غير من هو له، وهو على أقسام، أشهرها:
أ- الإسناد إلى الزمان، كقوله: (من سرّه زمن سائته أزمان) فإن إسناد المسرّة والإساءة إلى الزمان مجاز، إذ المسيء هو بعض الطواريء العارضة فيه، لا الزمان نفسه.
ب- الإسناد إلى المكان، نحو قوله تعالى: {وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم} (الأنعام :6) فإنّ إسناد الجري إلى الأنهار مجاز، باعتبار مائها.
ت- الإسناد إلى السبب، كقوله: (بنى الأمير المدينة) فإنّ الأمير سبب بناء المدينة لا إنّه بناها بنفسه.
ث- الإسناد إلى المصدر، كقوله: (سيذكرني قومي إذا جَدَّ جِدّهم) فإنّ الفعل (جَدَّ) أُسند إلى المصدر: (جِدّهم ) مجازاً، لأنّ الفاعل الأصلي هو الجادّ.
الثاني: المجاز في النسبة غير الإسنادية، وأشهرها النسبة الإضافيّة نحو:
أ- (جَرْيُ الأنهار) فإنّ نسبة الجري إلى النهر مجاز باعتبار الإضافة إلى المكان.
ب- (صومُ النهار) فإنّ نسبة الصوم إلى النهار مجاز باعتبار الإضافة إلى الزمان.
ت- (غُرابُ البَين) فإنّه مجاز باعتبار الإضافة إلى السبب.
ث- (اجتهاد الجِدّ) مجاز باعتبار الإضافة إلى المصدر.
===========
( ب) المجاز المرسل
المجازُ الْمُرسَلُ : كلمةٌ اسْتُعْمِلَتْ في غَيْر مَعناها الأَصْليِّ لعلاقةٍ غير المشابهةِ مَعَ قرينةٍ مانعةٍ من إِرادةِ المعنَى الأصْليِّ .
انظر إلى هذا المثال:
( يَلْبَسُ المصريونَ القطنَ الذي تُنتِجُهُ بلادُهم).
فكلمة (القطنَ) لا يراد بها معناها الأصلي الذي وضع له, ولكن يراد بها ( نسيجٌ) كان قطن , و العلاقة هنا اعتبار ما كان عليه النسيج و هو القطن, و القرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي هنا هي : أنه لا يعقل أن يرتدي المصريون القطن قبل تحوله إلى نسيج. وهذا هو المجاز المرسل.
علاقات المجاز المرسل:
مِنْ عَلاقات المجاز المُرْسَل:
1. السَّببيَّةُ : نحو قول المتنبيّ :
لَهُ أيَادٍ إليّ سَابِقَةٌ أعُدّ مِنْهَا وَلا أُعَدّدُهَا
انظر إلى الكلمة "أيادٍ" في قول المتنبي؛ أَتظن أنه أَراد بها الأيدي الحقيقية؟ لا. إِنه يريد بها النّعم، فكلمة أَياد هنا مجازٌ، ولكن هل ترى بين الأَيدي والنعم مشابهة؟ لا. فما العلاقة إِذا بعد أَنْ عرفت أَنَّ لكل مجازٍ علاقةً، وأَنَّ العربيَّ لا يُرسل كلمةً في غير معناها إِلا بعد وجود صلة وعلاقة بين المعنيين؟. تأَملْ تجد أَنَّ اليد الحقيقية هي التي تمنح النعم فهي سببٌ فيها، فالعلاقة إِذًا السببيةُ، وهذا كثير شائع في لغة العرب.
2. المسَبَّبيَّةُ: نحو قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} (غافر:13).
انظر إلى قوله تعالى: {ويُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السماءِ رزْقاً}؛ الرزق لا ينزلُ من السماءِ ولكنَّ الذي ينزل مطرٌ ينشأُ عنه النبات الذي منه طعامُنا ورزقُنا، فالرزق مسَّببٌ عن المطر، فهو مجاز علاقته المسببةُ.
3. الجُزئيةُ: نحو قول الشاعر:
كَمْ بَعَثنَا الْجَيْشَ جرَّا رًا وَأَرْسَلْنا الْعُيُونَا
أَمَّا كلمة "العيون" في البيت فالمراد بها الجواسيسُ، ومنَ الهيِّن أن تفهم أنَّ استعمالها في ذلك مجازيٌّ، والعلاقة أنَّ العين جزءٌ من الجاسوس ولها شأنٌ كبير فيه، فأُطلق الجزء وأريد الكل: ولذلك يقال : إِنَّ العلاقة هنا الجزئيةُ.
4. الكليَّةُ: نحو قوله تعالى: {وإِنِّي كُلَّما دَعَوتُهُمْ لِتغفِر لهُمْ جَعَلُوا أصَابِعَهُمْ في آذَانهمْ}(نوح:7) .
إذا نظرت في هذه الآية رأيت أنَّ الإنسان لا يستطيع أنْ يضع إِصبعَهُ كلها في أُذنه، وأنَّ الأصابع في الآية الكريمة أُطلقتْ وأُريد أطرافُها فهي مجاز علاقته الكليةُ.
5. اعْتبَارُ ما كانَ : نحو قوله تعالى: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} (النساء:2) .
تأمل قوله تعالى: {وآتُوا الْيتَامى أمْوَالَهم} تجد أَنَّ اليتيمَ في اللغة هو الصغير الذي مات أبوه، فهل تظن أنَّ الله سبحانه يأمر بإعطاءِ اليتامَى الصغار أموال آبائهم؟ هذا غير معقول، بل الواقع أن الله يأْمر بإعطاء الأموال منْ وصلوا سِنَّ الرُّشد بعد أن كانوا يتامَى، فكلمة اليتامى هنا مجاز لأنها استعملتْ في الراشدين والعلاقةُ اعتبار ما كانَ.
6. اعتبارُ ما يكونُ : نحو قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} (نوح:27).
انظر إلى قوله تعالى: {ولا يلِدُوا إِلاَّ فاجرا كفارا} تجدْ أنَّ فاجرًا وكفارًا مجازان لأنَّ المولود حين يولد لا يكون فاجرًا ولا كفارًا، ولكنه قد يكونُ كذلك بعد الطفولة، فأُطْلِقَ المولود الفاجر وأريد به الرَّجلُ الفاجرُ والعلاقة اعتبارُ ما يكون.
7. المَحَليَِّّةُ: نحو قوله تعالى: { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) } (العلق:17-18)
انظر إلى قوله تعالى: { فلْيَدْعُ نادِيهُ } تجد الأَمر هنا للسخريةِ والاستخفافِ، فإِننا نعرف أنَّ معنَى النادي مكانُ الاجتماع، ولكنَّ المقصود به في الآية الكريمة مَنْ في هذا المكان مِنْ عشيرتِهِ ونُصرائه، فهو مجاز أُطلق فيه المحلُّ وأريدَ الحالُّ، فالعلاقة المحليةُ .
8. الحالِّيَّةُ: نحو قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (الإنفطار:13) .
انظر إلى قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرارَ لَفِي نَعِيم} , فالنعيم لا يحُلُّ فيه الإنسان لأنه معنًى من المعاني، وإنما يحلُّ في مكانه، فاستعمال النعيم في مكانه مجازٌ أطلق فيه الحالُّ وأريد المحلُّ فعلاقته الحاليةُ.
===========
ثالثاً : بلاغة المجاز المرسل و العقلي
إذا تأملت أنواع المجاز المرسل والعقلي رأيت أنها في الغالب تؤدي المعنَى المقصود بإيجاز :
فإذا قلت : " هزمَ القائدُ الجيشَ " أو " قررَ المجلس كذا " كان ذلك أوجزَ من أنْ تقول : " هزمَ جنودُ القائد الجيش " ، أو " قرر أهل المجلس كذا " .
ولا شكَّ أنَّ الإيجاز ضربٌ من ضروب البلاغة .
وهناك مظهر آخر للبلاغة في هذين المجازين هو المهارة في تخير العلاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازيِّ ، بحيث يكون المجاز مصوراً للمعنى المقصود خير تصوير:
كما في إطلاق العين على الجاسوس.
والأذن على سريع التأثير بالوشاية.
والخفِّ والحافر على الجمال والخيل في المجاز المرسل، وكما في إسناد الشيء إلى سببه أو مكانه أو زمانه في المجاز العقلي، فإن البلاغة توجبُ أنْ يختار السبب القوي والمكان والزمان المختصان.
وإذا دققت النظر رأيت أنَّ أغلب ضروب المجاز المرسل والعقلي لا تخلو من مبالغة بديعة ذات أثر في جعل المجاز رائعاً خلاباً .
فإطلاقُ الكلِّ على الجزء مبالغة ومثله إطلاق الجزء وإرادة الكل ، كما إذا قلت :
" فلان فٌم " تريد أنه شره يلتقم كلَّ شيء .
أو " فلانٌ أنفٌ " عندما تريد أن تصفه بعظم الأنف فتبالغ فتجعله كله أنفاً .
ومما يؤثر عن بعض الأدباء في وصف رجل أنافيٍّ قوله : " لست أدري أهو في أنفه أمْ أنفهُ فيه " .
|