مقتطفات من العربي العلمي - العدد الثاني - يونيو 2011
«كوبرنيكوس»
د. عاطف يوسف محمود
يحفل
تاريخ علم الفلك بالعديد من القصص الطريفة، فقد درس أسلافنا الغابرون
السماء بكل تفاصيلها، ودأبوا كل يوم على مراقبة الشمس في رحلتها اليومية
عبرها وعلى متابعة تحركات النجوم. ولما كانت الأرض التي يقفون عليها ثابتة
بالنسبة لهم، فلا غرو أن افترضوا أن الأجرام السماوية هى التي تتحرك
بالنسبة للأرض الراسخة. وتبعًا لذلك طرح الفلكيون القُدامى رؤية للعالم
تمثل الأرض فيها كرة مركزية ساكنة، يدور الكون من حولها.
وكان
أول من طرح فكرة دوران الأرض حول الشمس في القرن الخامس ق.م.، هو
«فيلولاوس الكروتوني»، وكان طالبًا بالمدرسة الفيثاغورثية.، أما الرتوش
الأخيرة لهذا التصور عن الكون ذي الشمس المركزية فقد أضافها «أريستارخوس»
الذي ولد عام 310 ق.م. وقد حالف الصواب أريستارخوس بالمثل حينما تطرق إلى
أن الأرض تدور حول محورها هي مرة كل أربع وعشرين ساعة، وهو ما يفسر لماذا
يحلّ النهار حينما نواجه الشمس ويكون الليل حينما نبتعد عن مواجهتها.
بيد
أن الفلاسفة طرحوا جانبًا هذه الرؤية الدقيقة للمنظومة الشمسية، وتوارت
تلك الفكرة عن الكون ذي الشمس المركزية عن الأنظار عبر القرون العديدة
التالية. وربما كانت النظرة المتمحورة حول الذات قد شكلت عاملًا أسهم في
سيادة فكرة مركزية الأرض. وعلى الرغم من بعض الانتقادات المتواضعة لبضعة
علماء ومفكرين على مر القرون فقد كان على العالم أن ينتظر حتى القرن
السادس عشر الميلادي، قبل أن تواتي الشجاعة واحدًا من الفلكيين ليعيد
ترتيب أجرام الكون ويتحدى - بصورة جدية - المعتقدات الفلكية الخاطئة. كان
الرجل الذي قُدّر له أن يبعث للحياة ثانية نموذج «أريستارخوس» عن الكون
بشمسه المركزية هو «نيكولاج كوبرنيك»، وإن كان معروفًا أكثر بالصيغة
اللاتينية لاسمه: «نيكولاس كوبرنيكوس».
ولد
كوبرنيكوس عام 1473 لأسرة ميسورة الحال في مدينة «تورون» على ضفاف نهر
الفستولا ببولندة الحالية، ورُسِم كاهنًا بكاتدرائية فراوينبورج، ويرجع
الفضل في ذلك بدرجة كبيرة إلى عمه «لوكاس» الذي كان أسقفًا في إيرملاند.
وبصفته دارسًا للطب والقانون في إيطاليا، كان واجب كوبرنيكوس الأساسي
ككاهن أن يعمل كسكرتير وفيزيائى للوكاس. ولم تكن تلك بالمهمة الثقيلة، ومن
ثمّ فقد أتيحت لكوبرنيكوس الحرية كى ينخرط في أنشطة متنوعة خلال أوقات
فراغه، فأصبح خبيرًا اقتصاديًا، ومستشارًا في شئون إصلاح العملة، بل إنه
أصدر ترجماته اللاتينية الخاصة بشعر بعض أدباء الإغريق.
ومهما
يكن الأمر فقد كان ولع كوبرنيكوس الأعظم بالفلك، الذي افتتن به منذ أن
وقعت في يديه نسخة من بعض الجداول الفلكية. وقد تنامى عشق هذا الفلكي
الهاوي حتى غدا مدلّهًا بدراسة حركة الكواكب. وقد قُدّر لأفكاره في خاتمة
المطاف أن تصبح واحدة من أهم العلامات الفارقة في تاريخ العلم.
ومما
يبعث على الدهشة أن أبحاث كوبرنيكوس المنشورة في مجال الفلك لا تتعدى
بحثًا ونصف البحث، ومما هو أكثر مدعاة للعجب أن أعماله المنشورة تم
الاطّلاع عليها بالكاد إبان حياته، ولم يُنشر كتيبه الأول الذي كتبه بخط
يده بصفة رسمية أو يُوزّع بين دائرة ضيقة من الناس إلا حوالى عام 1514.
وعلى الرغم من كل ذلك، فقد زلزل كوبرنيكوس - فيما لا يزيد عن 20 صفحة -
زلزل أكثر الأفكار أصالةً في علم الفلك والكونيات على مدى أكثر من ألف
عام. وقد بسط في كتيبه المسلمات السبع التي أسس عليها وجهة نظره حيال
الكون:
أ - ليس للأجرام السماوية مركز مشترك واحد.
ب - الكرة الأرضية ليست بمركز الكون.
ج - يقع مركز الكون على مقربة من الشمس.
د - لا يمثل البعد بين الأرض والشمس مسافة تُذكر، مقارنة بالمسافات بين النجوم.
هـ - الحركة اليومية الظّاهرية للنجوم هي نتيجة دوران الأرض حول محورها هي.
و - الحركات المتعاقبة للشمس على مدى العام هي نتيجة دوران الأرض حولها، و كل الكواكب تدورحول الشمس.
ز - حركة الارتداد أو التراجع الظّاهرية لبعض الكواكب ما هي إلا نتيجة تغير موقع الراصد لها من فوق سطح كوكب الأرض المتحرّك.
وليس
من الواضح ما الذي حفز كوبرنيكوس على صياغة هذه المسلمات، خارقًا وجهة نظر
العالم التقليدية، إلا أنه أعاد إرساء نموذج الكون ذي الشمس المركزية الذي
طرحه أريستارخوس قبل ذلك بألف وسبعمائة عام، وكان كتيبه الذي عُرف باسم
«التعليقات» بمثابة منشور للتمرد والعصيان في عالم الفلك. ورغم ذلك لم
يُثر الكتيب بما احتواه من أفكار مغايرة ضجة بين علماء أوروبا المتخصصين،
ويعود ذلك من جهة إلى أن قلة فقط من الناس قد اطلعوا عليه، ومن جهة أخرى
إلى أن مؤلفه لم يزد عن كونه كاهنًا يعمل في مكان ما على حافة أوربا.
إلا
أن كوبرنيكوس لم يأبه لذلك، وكانت تلك هي بداية جهوده في تحويل مسار علم
الفلك. فبعد وفاة عمه «لوكاس» عام 1512 صار لديه المزيد من الوقت ليستأنف
دراساته، فانتقل إلى قلعة فراوينبورج وأنشأ مرصدًا صغيرًا، وركز عمله في
تأييد وجهة نظره، مضيفًا كل التفصيلات الرياضية التي لم يحتو عليها كتيبه
الأول وأنفق الثلاثين عاما التالية في إعادة صياغته، بحيث صار كتابًا
موثّقًا يحتوي على مائتي صفحة. وكان خلال هذه الفترة المديدة من البحث
مهمومًا بما عساه يكون رد فعل الفلكيين إزاء نموذجه عن الكون، ذلك النموذج
الذي يشذ عما يسيغه التقليديون. ومرت عليه أيام فكر خلالها في التخلي عن
خططه لنشر أعماله، خشية أن يغدو مثارًا للسخرية على نطاق عريض، والأدهى من
ذلك أنه تشكك في أن المتدينين المتزمتين لن يتسامحوا على الإطلاق مع ما
يعدونه تجديفًا دنسًا.
وقد
كان محقا في رأيه، فقد تجلى تشدد الكنيسة فيما بعد، حين أدانت الفيلسوف
الإيطالي جيوردانو برونو وهو واحد من أفراد جيل المنشقين ممن اتبعوا
كوبرنيكوس. لقد اتهمت محاكم التفتيش برونو بمخالفات هرطقية مختلفة حين طرح
أفكاره التي ناقش فيها عدم محدودية الكون، وأن للنجوم كواكبها، وأن ثمة
حياةً مزدهرة فوق تلكم الكواكب، وانتهى به الأمر إلى أن سيق للإعدام جزاءً
وفاقًا على جرائمه، فأُحرق حيًا في 17 فبراير من عام 1600.
كان
من الجائز أن يؤدي تخوف كوبرنيكوس من الإدانة إلى النكوص والتوقف عن
أبحاثه، إذ يتجلى المزاج السائد عن آرائه في قول المصلح الديني مارتن لوثر
عنه: «يدور الآن حديث عن فلكي جديد، يريد أن يثبت أن الأرض هي التي تتحرك
وتدور وليست السماء و الشمس والقمر. إن هذا الأبله يريد أن يقلب علم الفلك
وفنونه رأسًا على عقب». لقد نعت لوثر كوبرنيكوس بالأبله الذي يسير معاكسًا
للشرائع المقدسة!
إلا
أن بعضًا من معاوني كوبرنيكوس آزروه، وزودوه بالعزيمة،وبعد جهد حصلوا على
مخطوط كتابه ليطبع بمدينة نورمبرج توطئة لنشره. وأخيرا، في ربيع عام 1543
نُشر العمل تحت اسم «دوران الأجرام السماوية» وأخذت عدة مئات من نسخه
طريقها إلى كوبرنيكوس.
بيد
أن كوبرنيكوس كان آنذاك - ومنذ نهاية عام 1542 - طريح الفراش، يكابد
نزيفًا دماغيًا ويصارع المرض ليبقى على قيد الحياة، كي تكتحل عيناه برؤية
كتابه الذي أفنى فيه حياته وهو مكتمل. وقد وصلته نسخ الكتاب في الوقت
الملائم وهو يجود بأنفاسه الأخيرة في اليوم نفسه الذي قضى فيه نحبه.
لقد
أنجز كوبرنيكوس رسالته، فقد أسدى كتابه للعالم نظرة سديدة لصالح نموذج
الكون ذي الشمس المركزية. ومما يؤسف له أنه قُدر لكتاب «دوران الأجرام
السماوية أن يتوارى عن الأنظار بعد موت مؤلفه على هذا النحو الدرامي دون
أن يخلف أثرًا تقريبًا لبضعة عقود تلت طباعته، فلا الجمهور ولا الكنيسة
أخذاه على محمل الجد، فكسدت طبعته الأولى، ولم تُعَدْ طباعته خلال القرن
التالي سوى مرتين،في حين أعيدت طباعة الكتب التي تروج لنموذج الكون بأرضه
المركزية مائة مرة خلال الحقبة نفسها في ألمانيا وحدها.وكأن كوبرنيكوس كان
يتنبأ بذلك حين كتب في افتتاحية كتابه:
«لعله
سيكون هناك أناس ثرثارون، ممن سيأخذون على عاتقهم - رغم جهلهم المطبق
بالرياضيات - إصدار أحكامهم على القضايا الرياضية عن طريق تشويه بعض مقاطع
من الكتاب المقدس تشويها بشعًا لغرض في نفوسهم، فيتجاسرون على تسقط
الأخطاء إزاء تناولي لهذه القضية ويوسعونني تقريعًا، ولكني سأتجاهلهم
وأعتبر نقدهم دون أي أساس».