صورة لصخرة عنتر وعبلة.
لا أظن أن أحداً منا لم
يشاهد فيلم «عنتر وعبلة» الذي لعب بطولته فريد شوقي وكوكا، بل يكاد
الكثيرون أن يحفظواً جملاً من أشعاره وأزجاله، على الرغم من أن لغة الفيلم
كانت خليطاً من العربية الفصحى واللهجة البدوية والعامية المصرية! كما إن
الفيلم اتخذ طابعاً فكاهياً مرحاً، فحتى بطولات عنترة وهو يجندل خصومه بدت
هزلية ومبالغاً فيها!
ومجمل
أحداث الفيلم لا علاقة لها بالوقائع المؤكدة تاريخياً، فهو مزيج من تلك
الوقائع ومن الأساطير الشعبية التي نسجت حول أبي الفوارس عنترة. فهو إحدى
الشخصيات العربية القليلة جداً التي رويت عنها ملاحم شعبية شفاهة قبل أن
تطبع في كتب.
وإن كان ثمة خلاف هل اسمه الحقيقي «عنترة» أم
«عنتر» ـ والأول أكثر رجوحاً ـ لكن لا خلاف على كونه بطلاً صنديداً
وشاعراً فحلاً، اسمه عنترة بن عمرو بن شداد العبسي، ولد لأب عربي وأم
حبشية من الإماء، ولهذا السبب عانى في طفولته من العبودية ولونه الأسود،
وكان عليه أن يكتسب من الشرف والبطولة ما يجعل والده يلحقه بنسبه، وهو ما
حدث فعلاً.
واشتهر عنترة بقصة حبه لعبلة ابنة عمه مالك،
وبلغ بهما الشوق مبلغه فصارا عاشقين. وتقدم عنترة إلى عمه يخطب إليه
ابنته، لكن لون بشرته السوداء ونسبه وقفا في طريقه. فقد رفض مالك أن يزوج
ابنته من رجل يجري في عروقه دم غير عربي، وأبى كبرياؤه أن يرضى بعبد أسود
- مهما تكن شجاعته وفروسيته - زوجاً لابنته العربية الحرة النقية الدم
الخالصة النسب . وحتى يصرفه عنها ويشعره بقلة الحيلة والعجز عن دفع مهرها،
طلب منه أن يدفع لها مهراً ألف ناقة حمراء من نوق الملك النعمان المعروفة
بالعصافير .
لم ييأس عنترة المحب الواثق من قدرته على
سداد مهر حبيبته ومهجة قلبه عبلة ، فخرج في طلب عصافير النعمان حتى يظفر
بمعشوقته . لكن المهمة لم تكن سهلة بأية حال من الأحوال. فقد كانت الطريق
شاقة . واعترضته العواصف وأغرقته رمال بحر الرمال العظيم في الربع الخالي
بجزيرة العرب بعد أن ضل الطريق، ولقي في سبيل مهر عبلة أهوالاً عظيمة،
ووقع في الأسر، وأبدى في سبيل الخلاص منه بطولات خارقة.
وأخيراً..
تحقق حلمه، وعاد إلى قبيلته ومعه مهر عبلة ألف من عصافير الملك النعمان .
فهل رضي به أبوها؟ وهل وفَّى له بعهده بأن يزوجه عبلة إن دفع مهرها ألفاً
من نوق النعمان؟ بالطبع لا .. فقد بقي عمُّه يماطله، ويسوف زواجه منها ،
ويكلفه من أمره شططا. بل وصل به الحقد على عنترة أن فكر في التخلص منه،
فعرض ابنته على فرسان القبائل على أن يكون المهر رأس عنترة.
أما
عنترة الذي كان أقوى فتيان العرب وأكثرهم شجاعة وإقداماً، حاربهم واجتهد
في الانتصار عليهم، لكن كما يقول المثل العربي: الكثرة غلبت الشجاعة، خسر
عنترة المواجهة. وأورثه ذلك همَّاً كبيراً وكمداً لثلاثة أسباب. الأول حبه
الشديد لعبلة وهيامه بها للدرجة التي جعلته يتحدى من أجلها كل الأهوال
والمصاعب. والثاني انتماؤه القوي لقبيلته ودفاعه المستميت عنها في أعتى
الشدائد لكن قبيلته لم تحفظ له الجميل بل سحقته بالهمِّ وأعيته بالكرب
العظيم وأخيراً تآمروا عليه.
أما السبب الثالث فهو حظه
التعيس الذي جعل والده يتنصل من نسبه وحرمه من شرف ناله غيره بسهولة فضلاً
عن بشرته السوداء التي حالت بينه وبين زواجه ممن أحبها.
وتحكي
الأسطورة الشعبية أن عنترة قضى حياته راهبا متبتلا في محراب حبها، يغني
لها ويتغنى بها، ويمزج بين بطولته وحبه مزاجا رائعاً جميلاً. وهو يصرح في
بعض شعره بأنها تزوجت، وأن زوجها فارس عربي ضخم أبيض اللون.
إذن
الثابت أن عبلة تزوجت من شخص آخر غير عنترة بعد كل ذلك الكفاح الطويل الذي
قام به من أجلها. وأبى القدر أن يحقق للعاشقين حلمهما. لكن السؤال الذي لا
توجد عليه إجابة حاسمة: لماذا لم يتزوج عنترة من عبلة رغم كل البطولات
والتضحيات التي قام بها؟
أما بقية القصة، فخلاصتها أن
عنترة عاش طويلاً ومات عن عمر يناهز الثمانين، لكنها ميتة أسطورية تليق
بأبي الفوارس وأشعر الشعراء، حيث يروى أنه خرج مدافعاً عن قبيلته في تلك
السن المتقدمة ضد قبيلة طيئ وأصابه ابن سلمى بسهم مسموم في ظهره وهو على
جواده لكنه لم يسقط بل عاد جريحاً إلى قومه وهو يحثهم على التراجع حتى لا
يلحق بهم عار الهزيمة. ثم مات فوق جواده الأبجر وهو متكئ على رمحه. ومما
قاله وقد أدرك النهاية:
وإن ابن سلمى فاعلموا عنده دمي
وهيهات لا يرجى ابن سلمى ولا دمي