إذا
كان دخول التلفاز إلى المنازل أصبح عادياً ومتسارعاً، فإنه إلى المنازل
ذات الأطفال أسرع وأكثر إلحاحاً، ومن تجربة شخصية عندما بدأ التلفزيون
السعودي البث في الرياض، كان انتشاره في المنازل بطيئاً، وكان النظر إلى
استخدامه يشكل عدم ارتياح عند من يرون أنفسهم أهل وقار ومحافظة دينية
واجتماعية، وكان في بيتنا بعض الأطفال، ولم يدخل التلفاز دارنا بعد فكنت
أرى الصغار يتسللون بعد مغرب كل يوم إلى منزل جيراننا، ليشاهدوا مع
أطفالهم أفلام الكارتون التي كانت تبث مع أوقات الغروب وبعدها بقليل، ثم
ما لبثت أسرتنا الصغيرة أن كسرت حاجز الخوف الاجتماعي، وأحضرت تلك الآلة
الساحرة راضخة لمطالب صغارها، هذا الحدث عندما كان الإرسال بلونين فقط
(الأبيض والأسود)، ومثل ذلك حصل عندما تقدم الإرسال خطوة وأصبحت الشاشة
ذهبية بألوانها المختلفة، فما كان من الأطفال إلا أن عاودوا الكرَّة
بالانجذاب إلى الشاشة الملونة، نابذين وراءهم الشاشة الفضية إلى غير رجعة.
ولست
متحدثاً عن السعادة التي كانت تلفنا ـ نحن الكبار ـ ونحن نراقب التلفاز
وهو يعرض لنا الجدَّ والهزل معاً، وإني لأشبه تلك الحال بحال بعض الأسر
التي تباطأت في إدخال الأجهزة اللاقطة للفضائيات المتعددة إلى منازلها
اليوم، فبالرغم من فلسفة بعض الآباء وخوفهم على تأثير المعروضات على أخلاق
أبنائهم، أو سلوكهم، إلاَّ أن الخطورة لا تكمن فيه كجهاز، ولكنها فيما
ينتقى للكبار والصغار.
إذن
فلا مراء بأن ما يسببه التلفاز من إشغال للفكر والوقت أخطر من السحر،
لقضاء الطفل الوقت الطويل من حياته في صمت ومشاهدة، غير عابئ بما يحتاج
الجسم من حركة ونشاط، وما يطلبه العقل من تفعيل غير المحاكاة والتخزين،
وما ينتظره اللسان من حركة واستخدام، وما يفقده الفكر من فائدة إذا عطلت
المناقشة، وفقد الحوار بين الطفل ومجتمعه الصغير، ولقد ثبت بالتجربة أن
اللغة لا تكتسب بالسماع وحده، ولكن للممارسة والنطق دوراً لا يخفى على كل
من خبر اللغات، واطلع على أحوال الدارسين للغات الأجنبية، فإن المعنيين
بتدريس تلك اللغات أول ما يهتمون به هو كسر حاجز الخوف عند المتعلمين،
فيطلبون منهم القراءة ـ وهي أحد أركان التعلم ـ ، ثم يستمعون إلى الطالب
وهو يحاور نظراءه، أو يسألونه عما فهم مما قدم له من مادة مقروءة أو
مسموعة، ويقيمون بينهم وبينه حواراً لا يكشف عن مدى فهمه للمحتوى، بقدر ما
يكشف عن قدرته على النطق، ووضوح المخارج عنده، وسلامتها، وقدرته على
المحاكاة، وخروجه من جلباب أبيه إلى بزَّة أجنبية مغايرة لما كان مألوفاً
عنده، ولربما يتذكر من قرأ اللغة الإنجليزية على كبر ـ مثلي ـ ما نعاينه
نحن العرب في نطق بعض الحروف الإنجليزية نحو (CH,V,P.)،
لأنه لا مقابل لها في العربية، ولربما يصل حال بعضنا إلى حد السخرية وهو
يحاول الانطلاق في قراءة الكلمات التي تشتمل على هذه الحروف، ولسنا ـ نحن
العرب ـ الوحيدين في هذا الأمر، فطلاب شرق آسيا واليابان يعانون من (L,R)،
ترى متى يستطيع الطلاب الأجانب تصويب أخطائهم في النطق إن لم يجهروا بها،
فيسمعوا معلمهم الذي ـ لا شك ـ سيحاول تصويبها، وتشجيعهم على معالجة
الأخطاء، ومحاكاة اللغة السليمة، واللهجة الصحيحة في اللغة التي
يتعلمونها. وهكذا الطفل ما لم يسمع والديه مخارج الأصوات فلن يتنبهوا لما
يعتور نطقه من عيوب أو خلل.
وأخطر من التلفاز ما يسمى بالبلي ستيشن (PlayStation)، فهو يقرب الموضوع إلى عمر الطفل، ويستطيع أن ينفذ إلى دواخله في تأثير سحري لا نظير له.
وليس
التلفاز شراً كله، فهو كأي أداة يمكن استخدامها في الخير، كما يمكن أن
تكون وسيلة هدم أو قتل أو شر بأي شكل من أشكال الشر، فالسكين مثلاً، يمكن
استخدامها في الأمور النافعة، لكن يمكن تكون آلة قتل، وقل مثل ذلك عن
الأسلحة الخفيفة، فهي تكون وسائل للحماية ودرء الأخطار، وقد تكون وسائل
قتل وتدمير، والتلفاز مثل ذلك له جوانب سلبية ذكرنا جلها آنفاً، إلا
أنه لا يخلو من الجوانب الإيجابية النافعة، فمن ذلك ما ينقله من معارف
مختلفة وأخبار متنوعة، وما لا يضر بالمعتقد من الأفكار، بالإضافة إلى كونه
وسيلة تسلية مرضية إذا قورن بغيره من وسائل الترفيه الأخرى، وفيما يتصل
بالأطفال من زاوية إثراء المعارف لديهم لا ننسى ما تقدمه بعض برامج
التلفاز من فوائد علمية وتثقيفية كبرنامج المناهل، وبرنامج افتح ياسمسم،
فهي ليست برامج إثرائية للغة فحسب، بل تفيد خبرات الطفل في كيفية الحياة
وفي المعاملات مع الآخرين، بالإضافة إلى زيادة حصيلته العلمية
واللغوية، وإثراء خبرته بالمفردات والمعاني، وإطلاعه على البيئات
الاجتماعية التي لم يتيسر له زيارتها، إلى غير ذلك من الفوائد التي لا
ينكرها إلا مكابر.
وإذا
نظرنا إلى واقعنا العربي. وجدنا أنفسنا مستهلكين مستوردين لا للماديات
وحدها، بل حتى الثقافة نفسها، نستوردها ونسوقها، وقلما نسهم في صناعتها،
وما نقدمه لأطفالنا من مواد متلفزة أو على الأقراص المضغوطة والممغنطة أو
التي تقدم عبر أفلام (Space Toon)
أو غيرها، إنما هي في الغالب مستوردة أو منقولة عن اللغات الأخرى ذات
الثقافات التي قد لا تنسجم مع قيم مجتمعنا العربي ولا عاداته، فقد تروج
لأنماط سلوكية مستحسنة عند غيرنا لكنها مستهجنة عندنا، ومن أجل هذا كان
علينا أن نسهم في هذه الصناعة، فننتج ما يحتاجه أطفالنا وفق مبادئنا
وثقافتنا وأعرافنا، ومادمنا مستوردين، فلا نملك الخيار فيما يطرح أمام
أطفالنا ويؤثر في سلوكهم.
وإذا ما انتقلنا إلى الإنتاج فإن علينا أن
ندرس ما يقدم للطفل دراسة نفسية وتربوية، لا أن نقدم له مادة للتسلية
خلواً من الفائدة، على ألا تكون إثقالاً على ذهنه بحشو المعلومات إضافة
إلى ما يعانيه من المناهج المدرسية، وحبذا لو أقمنا للأطفال
قنوات بث خاصة تواكب المتغيرات في عالم التقنية والإعلام، وتجنب ناشئتنا
كل ما يخدش الحياء، وما يشوش أفكارهم أو معتقداتهم، وإذا كنا نحسن
الاستثمار وحساب المستقبل، فلا أفضل من الاستثمار في عقول أبنائنا وبناء
شخصياتهم بناء سليماً يستطيع العيش بسلام في مستقبل لا يزالون عند أول
نفقه المظلم، إنهم هم الاستثمار الحقيقي لمستقبل الأوطان.
منقول عن :أ.د. عوض بن حمد القوزي