يقول الله تعالى :{إِلاَّ
تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ
ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ
تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ
وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ }التوبة40.
يستقبل المسلمون بحلول شهر المحرم
المبارك سنة هجرية جديدة ، وموسما آخر للنفحات الربانية وفاضل الطاعات
والقربات ، وذكرى حدث عظيم القدر والمعنى والمغزى ، وهو الهجرة النبوية ،
التي ما زالت وستبقى ترف على الأمة الإسلامية بالدروس والعبر إلى قيام
الساعة . عام هجري ينقضي ، وعام هجري يهل هلاله وما أحوج المسلمين إلى
العزاء والسلوان من تاريخ التجارب والسنن ، في السيرة النبوية العطرة ،
وهم يمرون بظروف الوضع المهين تحت ضربات الأعداء الحاقدين الذين يسومونهم
التنكيل والإذلال والهوان بشتى وسائل القهر والاستغلال والعدوان ، حتى كأن
هلال المحرم يهل بعين دامعة مشفقة على هذه الأحوال ، كما جاء على لسان
الشاعر وهو لسان الحال :
أهـــل ، وألاف العيــون دوامـــــع ولاح وفي كــل القلــوب فـواجـــــع
رأته عيون وهي سكرى قريحــة فلم يبــد إلا كالدجى وهو ساطـــع
أطل ،ولما يمسح الشرق دمعــه ولمــا يضمــد جرحــه وهـو راكـــــع
ورضي الله عن عمر الفاروق الذي فتح الله
عليه هذا الفتح المبين ، فجعل منطلق التأريخ الإسلامي مرتبطا بحدث الهجرة
النبوية ، ليلتقي الحدث العظيم في حجمه وأبعاده بشهر عظيم في قدره وثوابه
، ولا غرابة ، فالإسلام دين الحكمة البالغة والمقاصد النبيلة السامية في
كل شيء من شؤونه . فالتأريخ للهجرة هو تأريخ لميلاد الأمة الإسلامية ،
والدولة الإسلامية ، والمجتمع الإسلامي ، كما هو ميلاد لتاريخ إسلامي
متميز وممتاز بين تواريخ الأمم جميعا ،لأنه تاريخ الدعوة إلى الله ونشر
أنوار الهداية في الأرض لفتح الآذان الصم والأعين العمي والقلوب الغلف على
التوحيد والحق والعدل وخير الدنيا والآخرة . فأية أمة هي أجدر بمدارسة
تاريخها من هذه الأمة الإسلامية ذات التاريخ العريق في المجد والشرف
والفضل . ولذلك تعتبر الهجرة النبوية حلقة دينية وتاريخية مشرقة في
التاريخ الإسلامي الطويل ،بوافر المعاني والدلالات والعبر التي تفيد في
فهم أسرار الدعوة وأصول النشأة الربانية الفريدة للأمة في طريق الامتداد
المتميز والممتاز بالخيرية في كل شيء { كنتم خير أمة أخرجت للناس }.
وتحل السنة الهجرية الجديدة ، وتحضر
معها نفحات ذكرى الهجرة النبوية ، ولكن ، أين ما يليق بها من الاهتمام
المنضبط بحدود شرعنا المطهر؛ ولنا في العناية بهجرة المصطفى صلى الله عليه
وسلم أسوة حسنة بأصحابه رضي الله عنهم؛ فعن البراء رضي الله عنه قال:
اشترى أبو بكر رضي الله عنه من عازب- والد البراء - رحلاً بثلاثة عشر
درهما، فقال أبو بكر لعازب:مر البراء فليحمل إلي رحلي. فقال عازب: لا، حتى
تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما من مكة
والمشركون يطلبونكم؟ [رواه البخاري ].نقول ذلك لأننا نلحظ اهتمام واحتفاء
الغافلين من المسلمين المنبهرين بالحضارة الغربية وأعياد النصارى وذكريات
عقائدهم وعاداتهم ، الذين يقلدونهم حذو القذة بالقذة ، كما هو الحال في
احتفالات ميلاد المسيح على طريقة النصارى بالمنكرات والخمور ..... وفي
غفلة وانقياد وتقليد أعمى ، ينسون نهي الإسلام الأكيد و الصريح في القرآن
والسنة عن تقليد اليهود والنصارى والركون إليهم { ولا تركنوا إلى الذين
ظلموا فتمسكم النار }.
بل أين حماس وسائل إعلام المسلمين
المقروءة والمسموعة والمرئية من حدث الهجرة النبوية ، وقد عودتنا كل
اهتمام باحتفالات رأس السنة الميلادية المسيحية؟ . وسوف تمر هذه الذكرى
الإسلامية العطرة على كثير من المسلمين في غفلة أو جهل تام من بعضهم ، أو
إدراك بارد باهت ، ولا يكاد يستقبلها بما يليق بها إلا قلة من أهل الإيمان
والتقدير لسيرة النبوة والدعوة والتاريخ الإسلامي عموما ، الذين عصمهم
الله تعالى من التبعية العمياء لجاذبية الثقافة الغربية وتمدنها ، وملأ
قلوبهم محبة لله وكتابه ورسوله.
ودرجة الاهتمام التي نتمناها لا نقصد
بها احتفالات لم يثبت فعلها عن نبينا صلى الله عليه وسلم ولا عن احد من
أصحابه الكرام، بل هي اعتبار بما هو حاضر في وقائع الهجرة و ما تختزن من
الدلالات والعبر .
إن الهجرة النبوية حدث عظيم وعميق
المغزى والأثر في رحلة الدعوة الإسلامية ، منذ مبدئها من مكة المكرمة إلى
منتهاها استقرارا بالمدينة المنورة ، وبين البداية والنهاية من الوقائع
والأحداث ما لا تفهم منطلقاته ومعانيه ومقاصده إلا ضمن العناية الإلهية
الحكيمة في إقامة هذا الدين القيم على قواعد ربانية دقيقة وعملية وواقعية
في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أقوالا وأفعالا وأحوالا .
فلقد أمضى النبي صلى الله عليه وسلم
ثلاث عشرة سنة بمكة يدعو إلى الله على بصيرة ويقاوم رواسب الجاهلية والشرك
في العقول والنفوس ، تربية على عقيدة التوحيد لصرف العبودية والعبادة لله
وحده ، وتحرير حياة الناس الفكرية والشعورية والاجتماعية من العبودية
لأوهام الشرك والخرافة والضلالات ، وانتقلت الدعوة من مرحلة السرية في
البداية إلى طور الجهر والصدع { فاصدع بما تؤمر } وأخذ الناس يقبلون على
دين الله بين الجهر والخفاء أفرادا وجماعات . لكن أساطين الشرك المتعنتين
لا يزداد تصديهم للدعوة إلا حدة واشتدادا ،خاصة بعد موت أبي طالب عم النبي
صلى الله عليه وسلم، الذي كان على شركه يذود عنه أذى المشركين ، ووفاة
زوجته خديجة رضي الله عنها التي كانت له نعم المؤازرة المواسية في المحن
والأزمات ، واشتد الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم ، وزادت محنته
النفسية بعد أن زار الطائف فطردوه وآذوه ، فسمى ذلك العام عام الحزن .
وضاعف المشركون من حصارهم وأذيتهم للنبي صلى الله عليه وسلم واتباعه
المستضعفين، فتوالت عليهم ألوان التعذيب والحصار والتجويع والإقصاء
والمقاطعة ، وكان أشدها عليهم حصارهم في شعاب مكة لثلاث سنوات من القسوة
والمعاناة . وهاجر منهم طائفة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة
مرتين فراراً بدينهم، وبقى صلى الله عليه وسلم في مكة يدعو إلى الله
ويلاقي من الناس أشد الأذى، وهو يقول: {رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} [الإسراء:80].
ولما فشلت كل أساليب المحاربة للدين
الجديد ،ولا يزداد إلا صلابة واتساعا ، وعلم المشركون بانتشار الدعوة في
المدينة وهجرة بعض المؤمنين إليها، فكروا ودبروا المكيدة، وخرجوا من
مداولاتهم بخطة ثلاثية الاختيار ، لم يلبثوا أن مالوا إلى أقصاها وهو
الاغتيال الحاسم . كذلك يكشف القرآن الخالد :{
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ
أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ }الأنفال 30 .
وكذلك كان قرارهم الذي انتدبوا له من
كل قبيلة من أقوى الفتيان من يشارك في التنفيذ حتى يتفرق دم الاغتيال في
القبائل فتتعذر المطالبة به على بني هاشم. ومكروا ومكر الله ، والله خير
الماكرين .وفي ليلة العزم على التنفيذ ، وقد حاصروا بيت النبي صلى الله
عليه وسلم ، يخرج من بينهم وهم لا يبصرون بعد أن ترك عليا بن أبي طالب رضي
الله عنه في فراشه للتمويه ، وفي ذلك من شجاعة علي وفدائه للنبي برهان ،
وصدمة خيبة كبيرة للمشركين الذين ثارت ثائرتهم وأرسلوا أعوان البحث
والمطاردة في كل الجهات. لكن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أذن الله له
بالهجرة ، يلتحق بأبي بكر رضي الله عنه وقد كان يهم بالهجرة من قبل
فيستوقفه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول :" لا تعجل لعل الله يجعل لك
صاحباً" [قال الألباني في فقه السيرة: صحيح بشواهده].وبقي على أمل الرفقة
الطيبة ، ينجز مقتضيات الإعداد والاستعداد للرحلة الطويلة القاسية، بتوفير
الراحلة والزاد والدليل ووسيلة التمويه والتضليل ، عملا بتوجيهات النبي
صلى الله عليه وسلم. وبدأت الرحلة فكان الاختباء بغار ثور لثلاث ليال في
الاتجاه المعاكس لوجهة الرحيل، ريثما تركد جذوة البحث الشديد،تمدهما أسماء
بنت أبي بكر بالزاد ، و أخوها عبد الله باستكشاف الأخبار ،بينما يطمس عامر
بن فهيرة أثارهما بآثار القطيع . ثم انطلقت الرحلة على عين من الله وعناية
، مسترشدين بالدليل المستأجر عبد الله بن أريقط الذي سلك بهم المسالك
الطرقية المجهولة للمشركين ، حتى وصلوا إلى المدينة بعد مشقة شديدة
وتضحيات كبيرة . فكان الاستقبال التاريخي الاحتفائي العجيب الذي هيأه أهل
المدينة من الأنصار رضي الله عنهم للطلعة النبوية الكريمة. وقد أكرمه الله
بهم إيواء ونصرة وهيبة ، كما أكرمهم به دينا قيما وخيرا وبركات وسلاما بين
الأوس والخزرج بعد عهود من الصراعات العصبية والحروب بينهما .
تلك كانت نبذة مقتضبة من حدث الهجرة
، وهي أوسع بكثير في تفاصيل أحداثها ووقائعها المعلومة في كتب السيرة .
لكن غايتنا في هذا الموضوع هي الوقوف على بعض ما تجود به الهجرة المباركة
من الدروس والدلالات والعبر التي نحن أحوج إلى تمثلها والعمل بمقتضاها في
إصلاح أحوالنا الدينية والدنيوية .
فالهجرة النبوية لم تكن انهزاما ولا
هروبا أمام طاغوت الشرك وطغيانه ،ولم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم
مغاضبا ، وإنما هي حكمة الله في تدبير عملي لتقوية الدعوة بالانتقال من
طور البناء العقدي في العقول والنفوس ، إلى طور الدعوة البانية للأمة
والدولة والمجتمع .وهي بذلك نقلة استراتيجية كبيرة وعميقة الأثر في نفس
النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم وفي مسيرة الدعوة التي
ستتغير معها الوضعيات والإمكانات والمواقف، من حال القلة والضعف والذلة ،
إلى حال الكثرة والقوة والعزة والقدرة على المواجهة . وكذلك كان بعد فرضية
الجهاد ومسلسل الغزوات الكثيرة المتواصلة في مواجهة قوى الشرك والضلال
خلال عشر سنوات في المدينة .
وكان من دروس الهجرة هجر الشرك
والمشركين ، والظلم والظالمين ، بصورة عملية ، طلبا لبديل في بلد آخر وعند
قوم رضوا بالدعوة الجديدة واعتنقوها وناصروها،بعد أن أثمرت فيهم رسالة
سفراء الدعوة النبوية من قبل كمصعب بن عمير رضي الله عنه ،فكان ذلك خيرا
وبركة للجميع مهاجرين وأنصارا، كما هي سنة الله تعالى : { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } النساء/100 .وما أكثر دواعي الهجر والهجرة اليوم في حياة المسلمين المحاصرين بعناصر العدوان وظواهر الضلال والفساد في كل واد.
والهجرة النبوية درس بليغ في الجمع
والتوفيق بين مقتضى العمل بالأسباب والسنن، وتمام التوكل على الله، كما هو
مبدأ الإسلام عقيدة وشريعة .
ففي كل تدابير الهجرة وأحوالها ، من
بدايتها إلى منتهاها ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل بكل مستلزمات
التفكير والتخطيط والمشورة والحيطة والحذر ، والإعداد والاستعداد ، في
منتهى السرية والإتقان، وهو المؤيد بالعناية الإلهية ، عملا بقوله تعالى {
إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنْفُسِهِمْ }. فتدبر لوازم الرفقة والراحلة والدليل والممون والمخبر
والمموه ومكان الاختفاء وزمان الرحيل ومسالك الطريق . ومع ذلك كان منه
التوكل في أعلى مستوياته واثقا من عناية ربه كما وعده { وَاصْبِرْ
لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا }الطور 48 . وحين استفرغ كامل
الجهد في العمل بالأسباب متوكلا، و بلغ بعض المطاردين باب الغار، قال أبو
بكر :( لو نظروا موضع أقدامهم لرأونا ) فيجيبه النبي صلى الله عليه وسلم
في وثوق المتوكل على ربه يقينا:( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما)
[صححه الألباني في فقه السيرة]. وتدخلت العناية الإلهية لصرف الأعداء
عنهما . ذلك المشهد الذي خلده القرآن الكريم : {
إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ
كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ
لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ
كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ
الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } التوبة40. . وما أحوج الأمة
اليوم إلى هذا الدرس البليغ ،وكثير من أفرادها يتذبذبون بين ضعف التوكل
وفقر العمل بالسنن على غير دراية ولا بصيرة . فاما هم على توكل سلبي أو
تواكل عقيم ، أو على ركون نسبي إلى الأسباب بغير مدد التوكل على الله ،
ولا شيء من ذلك يجدي وحده في واقع المسلمين بغير التوفيق المتكامل بينهما
على الوجه الإسلامي الصحيح :{ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين}[آل عمران:159].
والهجرة درس عقدي عميق في الثقة بالله
تعالى و عنايته وتوفيقه ، واليقين في وعده الحق بانتصار دينه وانتشاره {
ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون }، وتلك ثمرة التوكل الصحيح . فحين
أدركهما سراقة بن مالك في طريق الهجرة ، طامعا في مكافأة قريش المغرية
بقتل النبي أو أسره ، كانت تسيخ قوائم فرسه في الرمال كلما اقترب منهما ،
وبعد أن رأى من برهان الحماية الإلهية لنبيه ما أبهره ، جاء مستسلما ،
ليحصل من النبي صلى الله عليه وسلم على عهد أمان ، لكن النبي الواثق من
وعد الله ،يزوده برسالة مؤثرة من نبوءة اليقين في انتصار دين الله وسيادته
في أمد قريب ، فقال : ( كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى ؟) [الإصابة
في تمييز الصحابة 3/41]، وذلك يومئذ مما لا يطيقه الخيال، وقد كانت دولة
الفرس بقيادة كسرى ثاني أعظم دولة في العالم إلى جانب إمبراطورية الروم .
وشاء الله بعد حين من خلافة عمر الفاروق أن ينعم على المسلمين بفتح بلاد
فارس ، فقضوا على ملك كسرى وغنموا كنوزه، وأتي بها إلى الخليفة الذي تذكر
قصة سراقة فنادى عليه و ألبسه سواري كسرى تحقيقا لنبوءة من لا ينطق عن
الهوى . وفي هذا الدرس شفاء للنفوس المكلومة بوضعية المسلمين الحالية
المهينة ،لو تحركت فيها حوافز الثقة بوعد الله في القرآن والسنة بما هو آت
من انتصار الإسلام وانتشاره حتى لا يبقى بيت وبر ولا مدر إلا دخله ولو كره
الكافرون وجندوا كل قواهم لمحاربته :{
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً
ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } (الأنفال 36).
وفي الهجرة درس المحبة للبلد والوطن؛
فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة:" ما أطيبك من
بلد، وأحبك إلي؛ ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك"[رواه الترمذي
وصححه الألباني] قال ذلك صلى الله عليه وسلم لأن مكة مهبط الوحي وأحب
البلاد إلى الله؛ لذلك كان حبها دينا وقربة إلى الله. مع أن حب الوطن أمر
غريزي في النفس البشرية، فهو المهد الذي ولدنا فيه وعلى أرضه نعيش، وفوق
ترابه نركع ونسجد. ومتى ما كان حب الوطن مرتبطا بقدر قيام المسلم بدينه
على أرضه وتحت سمائه فإن الوفاء له والعمل على رفعته ونمائه مما يحمد عليه
ويشكر له، والدفاع عنه بالنفس والمال من الجهاد في سبيل الله؛ لأن الغرض
منه أن تكون كلمة الله هي العليا؛ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً،
وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً؛ فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ؟ قَالَ: " مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ
الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"[ رواه البخاري].
والهجرة درس عملي في معاني ومقاصد
الابتلاء والاختبار، حيث يبتلى المهاجرون ، بعد سنين من الصبر على الأذى
والحصار ، بترك أعزّ ما يملكون من الديار والأموال والأقارب والعشيرة،
فضحوا بكل ذلك في سبيل الله ابتغاء مرضاته. وفي ذلك تمحيص لصدق الإيمان ،
وتربية على التضحية والفداء من أجل الدين ،الذي لا يسمو عليه شيء من متاع
الدنيا . كذلك يقرر الحديث النبوي الفاصل بين المقبلين على الله والمقبلين
على الدنيا . ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله،
ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه
).(البخاري). . وكذلك تجسد في قصة صهيب بن سنان الرومي الذي خير بين الدين
والدنيا فاختار الدين ، حين منعه المشركون من الهجرة بماله الذي نماه في
مكة وقالوا: أتيتنا صعلوكاً حقيراً ، فكثر مالك عندنا ، وبلغت الذي بلغت ،
ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك ، والله لا يكون ذلك ،فقال لهم (أرأيتم إن
جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي ، قالوا : نعم ، قال : فإني قد جعلت لكم مالي
. فبلغ ذلك رسول الله صلى عليه وسلم فقال :( ربح صهيب ، ربح صهيب ) [صححه
الألباني في فقه السيرة] .ومن ذلك نتعلم كيف نضحي من أجل الدين بكل شيء ،
ولا نضحي بالدين لآجل أي شيء ، ونحن في زمن يبيع بعض الناس دينهم بعرض من
الدنيا حقير .
وفي الهجرة درس من تضحيات الشباب
لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته : وقد سطروا في ذلك صفحات مشرقة من
الإيثار والفداء بالأنفس والأموال . فيوم أن بات علي في فراشه صلى الله
عليه وسلم وغطى رأسه كان يعلم أن سيوف الحاقدين قد تبادر إلى ضرب من في
الفراش ، ويوم أن قام آل أبي بكر عبدالله وأسماء ومولاه عامر بتلك الأدوار
البطولية كانوا يعلمون مخاطر مغامراتهم لو انكشف أمرهم للمشركين ، لكن حب
الله ورسوله أعظم وأغلى ويستحق كل تضحية وفداء. كذلك كان شباب الصحابة
والتابعين ، فهل من صحوة في شبابنا تحيي عزائمهم وتقوي إراداتهم ،وتحررهم
من قيود التبعية العمياء للسخائف والملاهي المهلكات ، وتجعلهم يتبادرون
ويتنافسون في الفضائل والمعالي وعظيم المنجزات .
والهجرة النبوية درس أكيد في قيمة
المسجد في الإسلام ،وفي وجود المسلمين وحياتهم الدينية والدنيوية. لذلك
كان أول ما بدأ به النبي الكريم حين وصوله إلى المدينة ، هو بناء مسجد
قباء قبل أي شيء، ولا حتى بيته ، لأنه ركن الإيمان والعبادة ، ومؤسسة
دينية وتربوية واجتماعية ، لا تقوم الحياة الإسلامية ولا تستقيم بدونها :{
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ
تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}. التوبة 108. ولا غرابة أن تكون المساجد
إلى اليوم معالم إسلامية عظيمة الدلالة والمغزى ، بما تؤدي من أدوار
ووظائف دينية تعبدية وتربوية واجتماعية بليغة الأثر في الحياة الإسلامية .{
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا
تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ
الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ
الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } النور 36ـ37.
والهجرة درس ثمين وعجيب في مبدأ
الأخوة الإسلامية، كما أنجزها المربي العظيم عليه الصلاة والسلام بين
المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، في صورة واقعية فاضلة لا مثيل لها في
التاريخ . مؤاخاة أقبل الأنصار فيها على إخوانهم المهاجرين بمنتهى المحبة
والإيثار ، يقاسمونهم الديار والأموال والمتاع ، وخلد الله تعالى بالقرآن
فعلهم والثناء عليهم :{ وَالَّذِينَ
تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا
أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }(الحشر:9).
فأين الكثير منا اليوم من مقتضيات أخوتنا الإسلامية التي هي شاهد إيماننا
بالمحبة والتعاون والتكافل، استجابة لأمر الله تعالى { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم }، وقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )[رواه البخاري].
وفي التأريخ بحدث الهجرة نفسه درس
التخليد لهذا الحدث العظيم ، وقد كان ذلك إلهاما ربانيا من فتوحات عمر بن
الخطاب رضي الله عنه الذي استشار الصحابة رضي الله عنهم حول منطلق التأريخ
الإسلامي المناسب ، بين ولادة النبي وبعثته وهجرته ووفاته ، فكان اختياره
الأنسب الحكيم هو حدث الهجرة النبوية . وظل ذلك تأريخا للمسلمين قرونا ،
إلى أن استلبهم التقويم الإفرنجي ،فعملت به كثير من الدول الإسلامية،
زاهدة في أصالة التأريخ الإسلامي وما يقترن به من مقاصد نبيلة ودلالات
وعبر .
جعلنا الله تعالى ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
الخطبـة الثانيـــة:
عن عائشة رضي الله عنها قالت : سئل النبي
صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال :( لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية
، وإذا استنفرتم فانفروا ) (رواه البخاري).
لا هجرة بعد الفتح على طريقة رسول
الله صلى الله عليه وسلم وصحابته المهاجرين من مكة إلى المدينة، إذ
المسلمون في ديار الإسلام. لكن الهجرة بمقاصدها النبيلة ذات مدلول أوسع
وأنسب لزماننا ،أمام واقع الفساد الذي ساد والانحرافات التي راجت والفواحش
التي انتشرت واستشرت ، كل ذلك وغيره يستدعي الهجرة ، لا بالرحيل ، ولكن
بالرفض والاستنكار ، والمقاطعة والحصار ، تمثلا لحديث النبي صلى الله عليه
وسلم: ( ولكن جهاد ونية )، وعملا بالصورة المميزة للمسلم الحق المهاجر
باستمرار إلى ربه ،طاعة واستقامة وتعففا، كما قال عليه الصلاة والسلام : (
المسلم: من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر: من هجر ما نهى الله
عنه ) (البخاري).
ذلك درس آخر عظيم المعنى والمغزى
بين معاني الهجرة النبوية ، ينفتح على حياة المسلمين في كل زمان ومكان ،
في أمورهم العقدية والعبادية والأخلاقية والعملية . مقبلين على الله تعالى
إيمانا والتزاما ، بهجر الشرك وأوثانه القديمة والحديثة ، و المناكر
وأهلها، والمعاصي وأصحابها وأوكارها وأجوائها، والظلم وأهله ووسائله
وأحواله ،والمذاهب والأفكار والعادات الهادمة للدين والاخلاق . وهكذا تسري
روح الهجرة في حياة المسلمين بمعانيها وآثارها الطيبة باستمرار في كل زمان
ومكان، كما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تنقطع الهجرة حتى
تنقطع التوبة،ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ) [رواه أبو داود
وصححه الألباني].
فلنحي بروح الهجرة في نفوسنا نخوة
الإسلام ، وغيرة الإيمان ، وعزائم القرآن ، اعتزازا بدين الله ، واستعدادا
للتضحية والفداء من أجل نصرته وإعلاء كلمته وتحكيم شريعته، حتى نتحرر من
رواسب الغثائية التي رانت على القلوب والعقول فجمدت فينا حوافز الجهاد
والاجتهاد في الدين والدنيا ، مهتدين بهدي النبي الكريم صلى الله عليه
وسلم ودروس سيرته العطرة، فهو وحده قدوتنا كما أمرنا ربنا : {
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ
يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)(الأحزاب:21).
وصلى الله تعالى وسلم وبارك على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين .