تعتبر ظاهرة تعطيل الأبدان من الظواهر السلبية
التي ابتليت بها أمتنا الإسلامية مؤخرا . كما و تعتبر هذه الظاهرة جرحا من
جراحات الأمة الغائرة بل ووجع من الأوجاع الحساسة التي عمد أعداء الأمة إلى
تصديره إلى مجتمعاتنا . حتى كثر في المجتمع العديد من أصحاب الأبدان
المعطلة .
وتنامت الأصفار البشرية وأصبحت غثاءً كغثاء السيل. وعجز هؤلاء
حتى عن خدمة أنفسهم ومجتمعاتهم وبالتالي أصبحوا أعباء كئيبة علي دينهم
وأوطانهم .
إن خطورة تعطيل الفرد
لبدنه تكمن في عدة أمور منها :-
أولا :- أن ظاهرة تعطيل الأبدان
تعتبر مرض معد . مرض يسري ويتسرب إلي واقعنا كما يتسرب النوم إلى جفوننا .
متى ؟ كيف ؟ لا ندري. لا أحد يلحظه ولا يستطيع أن يرقبه . حتى إذا ما مرت
السنون فإذا بالأمة كلها وقد أصابها هذا الداء. والمنشأ كان لفرد سن سنة
سيئة وعطل بدنه عن القيام بدوره المرجو في هذا الكون الفسيح . حتى يصبح
الأمر سلوكا عاما , وروحا تسري بين أفراد الأمة . فالأب الذي لا يستيقظ
لصلاة الفجر- مثلا - يصعب أن يستيقظ أهل بيته وبالتالي يصبح البيت معطلا في
هذا الجانب , ومن هذا البيت تنتقل العدوى إلى البيت الذي يليه فالذي يليه
حتى يصبح الأمر عاما وسلوكا يستمرؤه الجميع .
ثانيا : تكمن
خطورة تعطيل الأبدان في أنها من أقوى أسباب تعطيل نصر الله سبحانه وتعالى ,
لأن الله تعالى ما كان لينزل نصره على أمة أو جماعة أو فئة – أو حتى على
فريق يمارس الرياضة – وبينهم من هو صاحب بدن معطل أو حتى صاحب بدن مستريح .
لأنه لو تنزل النصر على التنابلة والكسالى بفضل تدخل يد القدرة لزادتهم
كسلا إلى كسلهم وعندها فهم لا يلاموا . ألا يوجد من يدافع عنهم ؟ ألا يوجد
من يرد عنهم ؟ ألا يوجد من يكافئهم عن تعطيل أبدانهم؟.
وشاءت إرادة
الحكيم العليم ألا ينزل نصره إلا عندما يتخلص أصحاب الأبدان المعطلة من كل
بلادة واسترخاء , من كل دعة وركون , من كل سلبية وأنانية , هنا فقط تتدخل
يد القدرة لتدافع عن هذه الفئة عن طريقهم هم لا عن طريق غيرهم . وقبل هذا
فلن يتنزل النصر ولن يتنزل الله سبحانه وتعالى من السماء إلى الدنيا ليهش
الذباب عن وجوه الكسالى . ولن يتدخل ليحل مشاكل التنابلة , , ولن يتدخل
لنصرة أصحاب الأبدان المعطلة ما لم يتحرروا ويتحلوا بالإيجابية ويوظفوا هذا
البدن بالطريقة التي يريدها الله تعالى.
ثالثا : من
مخاطر تعطيل الأبدان شهادة أعضاء البدن على الإنسان يوم القيامة .
يقول
الله تعالى: ( ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما
جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم عما كانوا يعملون * وقالوا
لجلودهم لما شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول
مرة وإليه ترجعون *". فصلت -آية : 21:19 ")
تشهد
الأعضاء على كل من عطل وقصر , وعلى كل من أراح واستراح , على كل من تكاسل
وتشاغل . تشهد لتعري كل من ارتدى يوما رداء السلبية المريح . يومها ستتوالى
الاعترافات, وتتعالى الشهادات . سينطق كل عضو بأمر ربه يهتك المستور ,
ويفضح الأسرار . تلك الأسرار التي ظن أصحابها أنها أمور قد طويت صفحاتها في
دنيا انتهى أمرها.
وبالنظر في حال المجتمع المسلم منذ اللحظات
الأولى لنشأته, ترى كم كان هذا المجتمع مجتمعا فاعلا. لم تعرف بطالة
الأبدان يوما الطريق إلى أفراده . ظل طيلة فتراته مجتمعا إيجابيا . فإذا ما
نظرت إلى الفرد فيه فإذا هو فرد واحد, , ببدن واحد ولكنه بدن يحمل عشرات
القوى ومئات الإرادات . مجتمع لم يهتم طيلة تاريخه بفكر الكم ولكنه لطالما
اهتم بفكر الكيف .
يقول تعالى : " إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا
مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون "
.(الأنفال آية 65)
إن هذا الوضع هو الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن
يكون عليه المسلم:فعله فعل العشرة , وعمله عمل العشرة , وتأثيره تأثير
العشرة , وإرادته تساوي إرادة العشرة . حتى في لحظات الضعف. فيجب أن يكون
فعل المسلم وكذا عمله وإرادته وتأثيره مضربين في اثنين .
" الآن خفف
الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين , وإن
يكن منكم ألفا يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين(.الأنفال آية 66)
فليس
في المفهوم الإسلامي ما يدل على أن هذا الدين اهتم في يوم من أيامه بالعدد
والكثرة . إنما انصب اهتمامه على النوعية والكيف. فلما طلب خالد بن الوليد
من عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مددا قوامه ألف رجل على جناح السرعة يوم
اليرموك . فأرسل له الخليفة عمر رجلا اسمه القعقاع بن عمرو ومعه رسالة تقول
له :
أرسلنا لكم القعقاع
والقعقاع رجل بألف رجل .
فالقعقاع هذا الرجل – الفرد
– لم يكن غير رجل واحد ككل الرجال . ولكنه كان رجلا واحدا يحمل إرادات
عديدة . هذه الإرادات التي تجمعت فيه هي التي جعلت منه جيشا بمفرده . وهي
التي جعلت أبو بكر– رضي الله عنه يقول :
" لصوت القعقاع في المعركة
بألف رجل " .
وجعلت عمر يقول :
" لا
يهزم جيش فيه القعقاع "
إن الذي خلق هذه
الإرادات في هذه الأبدان المتميزة هو هذا المنهج الذي هو بين أيدينا اليوم
وعلى أرفف مكتباتنا . الذي خلق هذه الإرادات في هذه الأبدان هو حسن الاتصال
بهذا المنهج .فالذي جعل من المسلمين كيانا يزهو به الزمان هو حسن التعامل
مع هذا المنهج . فلقد كان المسلمون في عصورهم الذهبية يتعاملون مع هذا
المنهج على أنه منهج للتنفيذ وليس للتثقيف . وهذا هو الفرق بيننا وبينهم .
وهذا هو الذي جعلهم أصحاب إرادات ,و أصحاب مواقف يفخر بها التاريخ ويسعد
بها الزمان .
أما عندما تعاملنا مع هذا المنهج على أنه منهج
للتثقيف وليس للتنفيذ حل بنا البلاء وأصبح واقع الأمة واقعا أليما . استشرت
فيه بطالة الأبدان , وانعدمت فيه الإرادات , وتنامت فيه الأصفار البشرية,
وكثرت فيه الخشب المسندة حتى صرنا في ذيل الأمم , عطلنا أبداننا عن الدور
الذي خلقنا من أجله فكثرت مشاكلنا , وتعقدت أمورنا , والصورة بقتامتها
وضبابيتها واضحة للعيان . ولا تحتاج إلى مزيد من نكئ الجراح, ولا إلى
المزيد من البكاء والنحيب . ولكنها تحتاج إلى مزيد من التشريح والتحليل
علنا ننجح في تشخيص الداء وتحديد الدواء .
إن الدواء يكمن في أن
يعرف كل فرد في هذه الأمة أن الحل يبدأ من عنده . فالفرد هو الأساس الذي
عليه تقوم كل دعاوى الإصلاح. وبالتالي فإن صلاح هذه الأمة يبدأ من عندك أنت
. يبدأ من حسن توظيفك لهذا البدن الذي منحه الله إياك . لأنه إذا ما عطل
هذا البدن عن القيام بدوره يحدث الخلل الأكبر في المجتمع.
يقول الإمام
حسن ألبنا – رحمه الله - :-
" إن تاريخ الأمم جميعا إنما هو تاريخ ما
ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات . وإن قوة الأمم أو
ضعفها إنما يقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة
الصحيحة . وإني أعتقد – والتاريخ يؤيدني – أن الرجل الواحد في وسعه أن يبني
أمة إن صحت رجولته . وفي وسعه أن يهدمها كذلك إذا توجهت هذه الرجولة إلى
ناحية الهدم لا ناحية البناء . "
من رسالة هل نحن قوم عمليون ص 359
فليس
من حق الفرد في المجتمع أن يعطل بدنه الذي هو عالم من النعم , وجيش من
الأعضاء زودنا الله بها لنعمل ونحقق ونبدع ونحسن ونطور في واقعنا الذي
نحياه . أمدنا الله بهذا البدن لنسعى بالخير , ونعمر الأرض ونبني الأمة ,
لنرضي ربنا وننفع أنفسنا .
انظر أيها الفرد إلى نفسك على أنه بدونك
لا يتكون الجمع. فلولاك لما كانت الإنسانية . فأنت في الأمة عمدة وليس
بفضلة. إنك تمثل أساس بنائها التي تعتمد عليه ولست شيئا زائدا أو مضافا أو
ذا أهمية ثانوية . فلتفهم هذا المقام الرفيع الذي وضعك فيه ربك. ولتكن في
مستوى مقامك. ولتنظر إلى نفسك نظرة من بدونه لا تكون الأمة .
إن كل
تجارب الإصلاح عبر التاريخ بدأت بأفراد . بأفراد خلقوا بأبدان ككل الأبدان
ولكن التاريخ يخبرنا أن كل من نجح في توظيف هذه الأبدان . وعرف كيف يستفيد
منها من هذه القوة الكونية الهائلة التي وهبها الله إياه وتعامل معها
تعاملا نموذجيا نجح وسعد وأسعد من حوله .
أما أن يتحلى الفرد
بالسلبية, ويرفع شعارات السلبية اللذيذة من فصيلة " إنا مالي ",
"وما
إنا إلا فرد " " ماذا عساي أن افعل " , إنا لا استطيع أن افعل شيئا " , هل
انأ وحدي من سيصلح الكون ؟ " " ماذا عساى أن افعل وسط كل هذا الفساد وهذه
الأوضاع المقلوبة ." و الباب الذي يأتيك منه الريح ........ " إلي آخر هذه
الشعارات فان هذا هو الداء .
أن تعطيل الأبدان عن القيام بالدور
الذي يجب عليها القيام به هو ديدن العاجزين الأذلاء الضعفاء . ومنطق من
يجهل منزلته وقيمة نفسه في الأمة . وإذا كان الفرد في الأمة يحمل هذه
العقلية ويقول هذه المقولات . فان الأمة كلها تصبح لا تستطيع أن تفعل شيئا ,
لان المفرد الذي هو أساس الجمع لم يولد في هذه الأمة , والسبب هو عدم وعي
الإنسان بمنزلته , الأمر الذي قاده إلي التخلي عن مسؤولياته بتبرير يعكس
جهله بنفسه ". كتاب الشخصية الإسلامية ص185
انظر إلى رسول الله- صلى
الله عليه وسلم - فهو لم يكن غير فرد . فرد خلق ببدن ككل الأبدان . فرد وسط
عالم متلاطم من الفساد والإفساد والأوضاع المقلوبة ؟ وما أن سمع صلى الله
عليه وسلم نداء السماء " يا أيها المدثر . قم فأنذر " حتى نهض وقام وتحرك
ولم يعطل بدنه لحظة ولم يركن , ولم يكسل. إنما قال مقولته المشهورة :
" مضى عهد النوم يا خديجة "
ومن " قم فأنذر" إلى اللحظة التي أنت
فيها الآن:
ما هي النتيجة ؟
وما هي المحصلة التي ترتبت على تحركه
صلى الله عليه وسلم ؟
وماذا لو ركن هذا البدن عن تبليغ دعوة الله إلى
عباد الله ؟
وماذا لو تعطل هذا البدن عن السعي والدعوة إلى إخراج الناس
من الظلمات إلى النور ؟
ماذا لو تقاعس هذا البدن عن السعي بين الناس
بالخير ؟
قارن بين الصورتين. والنتيجة هي الفرق بين التعطيل والتفعيل :
تعطيل الأبدان وتفعيلها.