الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد : فإن الأيام تُطوى ، والأهلة تتوالى ، والأكفان تنسج ، والأعمال تدون ، والموعد يقترب .
أجيال
تفد إلى الدنيا كل يوم ، وأجيال ترحل عنها . والغفلة تستحكم على كثير من
القلوب ؛ حتى غدا أكثر بني آدم يبنون دنياهم ويهدمون أخراهم .
ها هي
جموع المسلمين لا تتمعر وجوههم إذا انتهكت محارمُ الله ؛ لكنهم يغضبون إذا
انتقص شيء من دنياهم ، إلا من رحم الله وقليل ما هم .
فالتاجرُ منهم ينظر إلى الربح ولا ينظر إلى طريقة التحصيل أحرامٌ هي أم حلال !
والموظف يستيقظ فزعاً لعمل الدنيا لكنه ينام عن عمل الآخرة !
والمرأة تخلت عن كثير من حجابها ، وارتكبت كثيراً مما يسخط ربها !
والأسرةُ المسلمة هَمُّها أن لا ينتقص شئ من وسائل عيشها الكريم ، ولا أن تمسَّ رفاهيتها بسوء .
وأما
همُّ الإسلام وهمُّ الآخرة فليس في الحسبان إلا عند قليل ممن لم تأخذهم
دوامة المادية المعاصرة . وبعضٌ مما نرى من أعمال الخير ما كانت لأجل الله
والدار الآخرة ؛ وإنما هي لأجل الدنيا . ومن الشرك إراد الإنسان بعمله
الدنيا .
وقليل ثم قليل أولئك المخلصون الصادقون .
من يعتبر ؟!
ينقضي هذا العامُ وكأن أيامه لم تكن شيئاً مذكوراً .
اثنا
عشر شهراً ، بدأ هلالُ الواحدِ منها ضعيفاً ثم أخذ يكبر حتى صار بدراً ،
ثم أخذ في الضعف حتى تلاشى ، ثم تبعته الشهور الأخرى حتى تم ميقاتها ،
وانقضى أجلها ، وتمت السنة !!
الله أكبر ، ما أسرع الأيام !
وما أكثر العصيان !
وما أقل الاعتبار !
والإنسان يمضي في هذه الدنيا كما مضت تلك الشهور .
لو سألت الشيخ الكبير عن شبابه وطفولته لحدثك عنها ، وأخبرك أنها مرت سريعاً ، وتجد أن أمله لا يزال طويلاً .
والشاب نسي طفولته وأمّل في مزيد من العيش ، وإن طال به العمر ليبكين شبابه . وهكذا الدنيا .. ولكن أين العقلاء والمعتبرون ؟!
هل يكفي طول العمر ؟
إن العبرة ليست بطول العمر ، وإنما هي بحسن العمل .
هل صحب الجاهُ أهلَ الجاه إلى قبورهم ؟
وهل كان المال مع أهل المال في لحودهم ؟!
با لفوز من صلح ظاهره وباطنه ، فختم له بحسن عمله .
ويالخسارة من فسد باطنه فختم له بالسوء .
ذلك
أن من مات على شيء بعث عليه كما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : ( يبعث كل عبدٍ على ما مات عليه ) رواه مسلم 2878
وفي
قصة الرجل الذي سقط عن راحلته في عرفة أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام
أنه يبعث يوم القيامة ملبياً ، وأخبر أن الشهيد يبعث يوم القيامة وجرحه
يدمى : اللون لون الدم ، والريح ريح المسك .
وما كان موت الفجأة مذموماً إلا لأنه يفجأ صاحبه قبل التوبة من المعاصي .
خوف السلف من سوء الخاتمة :
لقد كان خوف السلف من سوء الخاتمة عظيماً .
بكى سفيان الثوريُ ليلة إلى الصباح ، فقيل له : أبكاؤك هذا على الذنوب ؟
فأخذ تبنة من الأرض وقال : الذنوب أهون من هذه ؟ إنما أبكي خوف الخاتمة . [ العاقبة في ذكر الموت والآخرة للأشبيلي 175 ]
وقال عطاء الخفاف : ما لقيت سفيانَ إلا باكياً فقلت : ما شأنك ؟
وقال : أتخوف أن أكون في أم الكتاب شقياً [ السير7/266]
وقال سهل التستري : خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة وعند كل حركة وهم الذين وصفهم الله إذ قال ( وقلوبهم وجلة ) .
أسباب سوء الخاتمة :
أعظم
سبب لسوء الخاتمة فسادُ القلب بفساد الاعتقاد حتى ولو صَلَح الظاهر ،
وأقبح ذلك التلبسُ بالشرك أو شيء منه أو الاستمرار على البدعة .
والشركُ منع عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبا طالب أن يشهد شهادة الحق حالَ احتضاره ، وكم من مبتدع ختم له بالسوء .
ومقارفة الكبائر ، والإصرارً على الذنوب مفسدٌ للقلب ، مؤذنٌ بشؤم العاقبة ، وسوء الخاتمة .
والمحتضر يردد حال احتضاره ما كان يكثر من قولٍ وعمل خيراً كان أم شراً .
وواقع المحتضرين يدل على ذلك ؛ فأهل الصلاح يختم لهم في الغالب بصالح أعمالهم ، وأهل الفساد يختم لهم بفسادهم .
وكم من عاص مات وهو يغني أو وهو يشرب الخمر أو انعقد لسانه عن شهادة الحق فلم يستطع نطقها عوذاً بالله من ذلك .
قال مجاهد رحمه الله تعالى : ما من ميت يموت إلا مُثّل له جلساؤه الذين كان يجالسهم [ الكبائر للذهبي 100 ] .
وقد ذكر العلماء أن سوء الخاتمة على رتبتين إحداهما أعظم من الأخرى :
1 –
فأما الرتبة العظيمة الهائلة فهي أن يَغلبَ على القلب عند سكرات الموت
وظهور أهواله إما الشكُ وإما الجحود ؛ فتقبض الروح على تلك الحالة فتكون
حجاباً بينه وبين الله تعالى أبداً ، وذلك يقتضي البعدَ الدائم والعذاب
المخلد .
2 ـ والثانيةُ
وهي دونها : أن يغلبَ على القلب عند الموت حبُ أمر من أمور الدنيا أو شهوة
من شهواتها ، فيتمثلُ ذلك في قلبه ويستغرقه حتى لا يبقى في تلك الحالة
متسعٌ لغيره .
فمهما اتفق قبضُ الروح في حالة غلبة حب الدنيا فالأمر
مخطر ؛ لأن المرء يموت على ما عاش عليه وعند ذلك تعظم الحسرة [ انظر :
إحياء علوم الدين 4/162]
فيا ترى : كم مقدارُ الدنيا في قلوبنا ؟! وماذا قدمنا لآخرتنا ؟!
إن
عملَ كثيرين منا ولهاثهم خلف المتاع والمال ليدل على أن الدنيا استمكنت من
قلوب الكثيرين ، أو على الأقل غلبت على قلوبهم فأفسدتها وصدتها عن الآخرة
؛ حتى أصبحوا لا يجدون لذة العبادة . بل لذتهم وسعادتهم في منصب يبلغونه ،
أو مالٍ يكسبونه ، أو مجدٍ يحققونه ، ولو كان بعيداً عن ذكر الله وشكره
وحسن عبادته .
ومن أعظم الشؤم وأسوأ العاقبة ، أن يعملَ العبدُ في
الصالحات وقد كتبَ في أم الكتاب من الأشقياء . يراه الناسُ فيغبطونه على
صالح عمله ؛ لكنهم لا يعلمون فساد نيته ، وخبث طويته ، ومراءاته في عمله ،
وما اطلعوا على أسراره وخفاياه ؛ بل لا يعلم ذلك إلا الله تعالى .
عن
سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو
والمشركون فاقتتلوا ، فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره ،
ومال الآخرون إلى عسكرهم ، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ
لا يدع شاذَّةً إلا اتَّبَعها يضربها بسيفه ، فقالوا : ما أجزأ منا اليوم
أحدٌ كما أجزأ فلان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أما إنه من
أهل النار )
فقال رجل من القوم : أنا صاحبهُ أبداً ، قال : فخرج معه
، كلما وقف وقف معه ، وإذا أسرع أسرع معه ، قال : فجرح الرجلُ جُرحاً
شديداً ؛ فاستعجل الموت فوضع نَصْل سيفه بالأرض وذُبَابَه بين ثدييه ، ثم
تحامل على سيفه فقتل نفسه ؛ فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال : أشهد أنك رسول الله قال : وما ذاك ؟
قال : الرجل الذي ذكرت
آنفاً من أهل النار ؛ فأعظَمَ الناسُ ذلك . فقلت : أنا لكم به ، فخرجت في
طلبه حتى جرح جُرحاً شديداً ؛ فاستعجل الموت ، فوضع نَصْل سيفه بالأرض
وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه .
فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم عند ذلك : ( إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو
من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل
الجنة ، وإنما الأعمال بالخواتيم ) رواه مسلم 112 .
أهمية صلاح القلوب والأعمال :
مكانُ الدفن ، وساعةُ الموت ، وكثرةُ المشيعين ، ليست تزيد في الحسنات أو تنقصُ السيئات .
وقد
يكون منها ما هو علامةُ خير ، ودليلُ فوز ؛ كشهادة الصالحين للعبد بالخير
، فهم شهداء الله في أرضه ؛ بيد أن العبرةَ بصلاح القلوب ، وقبولِ الأعمال
.
والناس يحكمون بمقتضى الظاهر وأما القلوب فلا يعلم مكنونها إلا الله تعالى .
وقد
مرَّ بعض الصالحين بيهودي ميتٍ قد أوصى أن يدفن ببيت المقدس ، فقال :
أيكابر هؤلاء الأقددار ؟ أما علموا أنهم لو دفنوا في الفردوس الأعلى لجاءت
لظى بأنكالها حتى تأخذه إليها ، وتنطلق به معها [ العاقبة 178 ] .
وقال آخر : من حكم له بالسعادة لا يشقى أبداً ، وإن ألحّ غاويه ، وكثر معاديه ، وأحيط به من جميع نواحيه .
ومن حكم له بالشقاوة لا يسعد أبداً ، وإن عُمِر ناديه ، وأخصب واديه ، وحسنت أواخره ومباديه .
كم
من عابد ظهرت عليه أنوارُ العبادة ، وآثار الإرادة ، وبدت منه مخايل
السعادة ، وارتفع صيته ، وانتشر في الآفاق ذكره ، وعظم في الناس شأنه جمحت
به الأقدار جمحة ردته على عقبيه فختم له بالسوء [ تنظر : العاقبة 178 ] .
ومن المعلوم أن سوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهره ، وصلح باطنه . وإنما تكون لمن كان عنده فسادٌ في القلب ، وإصرار على الكبائر ؛
فربما غَلبَ ذلك عليه حتى ينزل به الموتُ قبل التوبة ، ويثبَ عليه قبل الإنابة .
وربما
غلبَ على الإنسان ضربٌ من الخطيئة ، ونوعٌ من المعصية ، وجانبٌ من الإعراض
، ونصيب من الافتراء ؛ فملك قلبه ، وسبى عقله ؛ فلم تنفع فيه تذكرة ، ولا
نجعت فيه موعظة ؛ فيتخبطُه الشيطانُ عند موته ، ويسلبُه إيمانه .
والعبد
المؤمن مأمور بأن يجتهد في إصلاح قلبه ، ويسارع في مرضاة ربه ، وأن يسأل
الله الثبات إلى الممات ؛ فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها
كيف يشاء .
وفي ختام هذا العام ، هل نعتبر بما مضى من الأيام ؟!
هل نخاف من سوء الختام ؟!
هل يبادر العاصي منا إلى ربه فيتوب من معصيته ، ويسارع إلى طاعته ؟!
فلعل الله يقبل توبته ويكتبُ له بها سعادة لا يشقى بعدها أبداً .
أسأل
الله تعالى أن يصلح قلوبنا وأعمالنا ، وأن يحسن خواتمنا ، وأن يجعلنا ممن
قبله ورضى عنه إنه سميع مجيب ، والحمد لله رب العالمين .