[center]
دنيا الغرور
محاضرة
للشيخ
سليمان بن محمد اللهيميد
بسم الله الرحمن الرحيم
إن
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات
أعمالنا من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) .
(
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن
نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً
كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ
وَالأَرْحَامَ إِ
نَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) .
(يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ ) .
أما بعد .
إن الموضوع لهذه المحاضرة بعنوان : دنيا الغرور .
أولاً : لماذا الحديث عن هذا الموضوع .
1. لأن الناس انشغلوا بالدنيا و أصبحت همّ الكثير منهم إلا من رحم الله .
2. الترغيب بالدار الباقية والترهيب من الركون إلى الدار الفانية .
3. زهد الناس بالدار الباقية و انشغالهم بالدار الفانية .
لهذه الأسباب ولغيرها كان الكلام عن الدنيا وفتنتها وخطرها من الأمور المهمة .
إن
هذه الدنيا دار معبر وممر لا دار مقر ومستقر ، ودار عبور لا دار سرور ,
جديدها يبلى ، وملكها يفنى ، وعزيزها يذل ، وكثير ها يقل ، وحيها يموت ،
وخيرها يفوت .
أحلامُ نومٍ أو كظل زائل ...... إن اللبيب بمثلها لا يخدع
يقول الخليفة عمر بن عبد العزيز واصف الدنيا : [ اسمع يا أخي المسلم ] .
بقائها
قليل ، وغنيها فقير ، وشابها يهرم ، وحيها يموت ، فلا يغرنكم إقبالها مع
مـعرفتكم بسرعة إدبارها فالمغرور من اغتر بها ، الركون إليها خطر ، والثقة
بها غرر ، كثيرة التغير ، سريعة التنكير ، أمانيها كاذبة ، وآمالها باطلة
، عيشها نكد ، وصفوها كدر ، والمرء منها على خطر ، إن أضحكت قليل أبكت
كثيرا ، وإن سرّت يوماً ساءت أشهراً وأعواماً ، غناها مصيره إلى فقر ، وفرحها يؤول إلى ترح ، وهيهات هيهات أن يدوم بها قرار .
جاء في الأثر : أن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقا أبغض إليه من الدنيا وأنه منذ خلقها لم ينظر إليها .
سميت هذه الدنيا بالدنيا لسببين :
السبب الأول : أنها أدنى من الآخرة لأنها قبلها .
كما قال الله تعالى (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) .
وقال تعالى ( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى ) .
السبب الثاني : أنها دنيئة ليست بشيء بالنسبة للآخرة .
اسمع لحديث النبي r يقول ( لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ) متفق عليه .
موضع السوط موضع قصير أو موضع عصا , هذا الموضع في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، خير من الدنيا من أولها إلى أخرها .
نعم
، ولقد أكثر القرآن الكريم من التزهيد في الدنيا ، وبيان حقارتها ، وسرعة
زوالها وانقضائها ، وأنها لا بقاء لها ولا لأهلها ، وأنها دار الغرور
والهموم .
قال تعالى ( إِنَّمَا
مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ
وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ
وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا
لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ
بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) .
قال ابن القيم رحمة الله : فأخبر سبحانه عن خست الدنيا ، وزهّد فيها ، وأخبر عن دار السلام ودعا إليها .
ويقول
سبحانه وتعالى عن مؤمن فرعون أنه قال لقومه (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ
الْحَـيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ
) .
وقال القرطبي : متاع : أي يتمتع بها قليل ثم تنقطع وتزول . ودار الآخرة هي دار الاستقرار والخلود .
ويقول سبحانه ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . والآخرة خير وأبقى ) .
ويقول ابن كثير رحمه الله : أي تقدمونها علي أمر الآخرة و الآخرة خير و أبقى : أي ثواب الله في الدار الآخرة خير و أبقى فالدنيا دانية فانية و الآخرة شريفة باقية ..فكيف يؤثر العاقل ما يفنى على ما يبقى ؟
ويقول سبحانه ( قل متاع الدنيا قليل ) ، لماذا متاع الدنيا قليل ؟ لأنه لا بقاء له .
وقد توعد الله سبحانه وتعالى أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا و اطمئن بها : فقال تعالى : ( إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا
وَاطْمَأَنُّواْ
بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُوْلَـئِكَ
مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ).
وعّير سبحانه بمن رضا بالدنيا من المؤمنين :
فقال سبحانه ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي
سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ
الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ) .
إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله ، جاهدوا في سبيل الله ؟
لماذا لا ينفرون ؟ السبب في ذلك أنه التعلق بالدنيا وحب الدنيا وعشق الدنيا هو سبب الكسل والتقاعس عن النفور في سبيل الله .
ثانياً : الدنيا في السنة النبوية :
لقد أخبر النبي r عن حقارة الدنيا و حث ورغب بالتزهيد بها و بين لنا الدنيا وحقارتها وخستها وزوالها .
أولاً : حال النبي r مع الدنيا :
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال r ( مالي و للدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ) .
هكذا كانت الدنيا في نظر الرسول r .
فالزهد في الدنيا شعار الصالحين ، وعلامة المخلصين ، ودليل المتقين .
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه ( ما أبعد هديكم من هدي نبيكم r ، إنه كان أزهد الناس في الدنيا و أنتم أرغب الناس فيها ) .
ثانياً : وصى النبي r أن نكون في الدنيا كالغرباء .
فقال r لابن عمر ( يا ابن عمر كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) رواه البخاري وفي رواية ( وعد نفسك من أهل القبور ) .
هذه وصية النبي r لابن
عمر ، وهي في الواقع وصية له وللأمة من بعده رضي الله عنه وأرضاه ، كن في
الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور .
قال الإمام النووي رحمه الله في معنى الحديث ( لا تركن إلى
الدنيا ولا تتخذها وطنا ، ولا تحدّث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالاعتناء
بها ، ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه ) . [ كتاب رياض الصالحين ] .
وقد امتثل ابن عمر لهذه الوصية قولا ً وعملاً :
- فأما القول :
فقد كان يقول t : إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك .
وصية لابد أن يطبقها وهو أولى الناس بأن يطبق هذه الوصية .
- فأما بالعمل أو الفعل :
فكل من قرأ ونظر في هديه t وأرضاه علم أنه كان على جانب كبير من الزهد فيها والقناعة منها باليسير الذي يقيم صلبه ، وما سوى ذلك يقدمه لغدهِ .
يقول جابر رضي الله عنه : ما أدركنا أحد أو قال ما رأينا أحد إلا قد مالت به الدنيا إلا ابن عمر .
وقالت عائشة : ما رأيت أحد ألزم للأمر الأول من ابن عمر .
ثالثاً : مثل الدنيا في الآخرة :
عن المستورد t قال:قال النبي r (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما يرجع) رواه مسلم
يقول
النووي رحمه الله : ما للدنيا بالنسبة للآخرة في قصر مدتها وفناء لذاتها
ودوام الآخرة ودوام لذاتها ونعيمها إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالإصبع إلى
باقي البحر .
وهذا حديث عظيم يبين حقارة الدنيا بالنسبة للآخرة وقد سبق معنا قبل قليل قول النبي r ( لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ) .
رابعاً : هوان الدنيا على الله :
فقد جاء في حديث عند الترمذي أن النبي r مر على شـاة ميتة فقال لأصحابه : أترون لهـذه الشاة هينة على أهلها ؟ قالوا من هوانها ألقوها ، فقال r ( والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها ) .
الله أكبر ... هذه الدنيا من أولها إلى آخرها أهون عند الله من هذه الشاة الميتة عند أهلها .
هذه هي الدنيا التي شغل بها الكثير من الناس وغرهم سرابها وبريقها وزينتها ، فراحوا يتهافتون على جمعها ويتنافسون في اكتنازها .
الدنيا ... كل الدنيا أحقر عند الله من هذه الشاة الميتة على أهلها
هي الدنيا تقولُ بملءِ فيها ......... حذارِي حذاري من فَتْكِي وبَطَشِي
خامساً : الدنيا أحقر عند الله من جناح البعوضة .
يقول r ( لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقا منها كافراً شربة ماء ) رواه الترمذي .
جناح بعوضة فهل لجناح البعوضة قيمة ! ! أبدا ً بل هل للبعوضة كل البعوضة قيمة ؟ الجواب بلا شك لا قيمة لها
ومع هذا ، فالدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة ، ولهذا فالدنيا لا قيمة لها .
قال تعالى في الكفار (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) .
ولو كان لها قيمة ما سقا منها كافراً شربة ماء لأن الكافر عدو الله ، وبغيض الله تبارك وتعالى .
سادساً : خوف النبي r علينا من الإفتتان في الدنيا .
يقول r
( ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على
من قبلكم فتنافسوها كما تنافسها فتهلككم كما أهلكتهم ) متفق عليه .
وهذا
للأسف هو واقع كثير من الناس ، فحينما نرى الناس يتسارعون على هذه الدنيا
، ويتكالبون عليها ، يدرك الإنسان لماذا يفقد البعض دينه ويضيع الكثير
أهله ، وتنتشر الأحقاد ، وتزرع الضغائن ، وتعم البغضاء .. نعم ، كل هذا من أجل الدنيا و الركض وراء الدنيا و السعي وراء الدنيا و ملذاتها وشهواتها
و النبي r خشي علينا من الافتتان بالدنيا ، وهو بأبي و أمي r أشفق
الناس علينا ، يريد لنا الخير ، ويريد لنا أن نجمع الدنيا و الآخرة فحينما
نفتتن في الدنيا فتشغلنا عن الآخرة ، فنخسر الدنيا والآخرة .
سابعاً : أمرنا النبي r باتقاء الدنيا .
ففي حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال النبي r ( إن الدنيا حلوة خضره وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا و اتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ) رواه مسلم .
ففي هذه الحديث حذر النبي r أمته من الافتتان بالدنيا ونسيان الآخرة لماذا ؟ لأن الدنيا وحب الدنيا وعشق الدنيا رأس كل خطيئة ، ولذلك فاتقوا الدنيا و احذروها وانتبهوا فإنها غرت الكثير والكثير .
ثامناً : الدنيا ملعونة .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال r ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه ) رواه الترمذي .
ومعنى ملعونة : أي حقيرة وساقطة .
وما سبب لعنتها ؟
لأنها غرت النفوس بزهرتها ولذتها وزينتها عن العبودية لله عز وجل .
تاسعاً : الدنيا سجن المؤمن .
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي r ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) رواه مسلم .
الله أكبر .... المؤمن ربما يكون في عيشٍ رغيد ومع ذلك هو في سجن .
· لماذا هو في سجن ؟ لما أمامه من جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
· لماذا ؟ لأن أمامه جنات فيها مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
· لماذا ؟ لأن أمامه النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى .
· لماذا ؟ بالنسبة لما أعده الله له في الجنات من النعيم العظيم ، والثواب الجزيل .
نعم ، فالمؤمن مهما كان يعيش في رغد من العيش وفي نعيم وفي سعادة فهو في سجن بالنسبة للآخرة وبالنسبة للجنة
عاشراً : الزهد في الدنيا سبب في محبة الله .
مما لا شك فيه أن كل إنسان في الدنيا يرغب ويبحث عن أن يكون محبوب عند الله تبارك وتعالى ، وهناك أسباب ذكرها ابن القيم رحمه الله وغيره :
من الأسباب : الزهد في الدنيا
: لأن الزهد في الدنيا دليل الإنابة والتقوى ، ودليل أن الإنسان عنده رغبة
في الجنة ولو لم يكن في بغض الدنيا و الزهد في الدنيا إلا هذه المنقبة
لكفى بها شرفاً وفضلا .
فقد جاء في الحديث عن النبي r (أن رجلاً قال : يا رسول الله ! دلني على عمل يحبني الله ويحبني الناس فقال : ازهد في الدنيا يحبك الله و زهد فيما عند الناس يحبك الناس ) رواه ابن ماجه .
يقول الشيخ محمد بن عثيمين رحمة الله : من فوائد هذا الحديث :
1- أن من زهد في الدنيا أحبه الله ، لأن الزهد في الدنيا يستلزم الرغبة في الآخرة .
2- أن الطمع في الدنيا والتعلق بها سبب لبغض الله تبارك وتعالى ، وقد قال بعض السلف [ مهر الجنة ترك الدنيا ] .
ومن أسباب محبة الله كثرة النوافل كما في حديث أبي هريرة . قال : قال النبي r ( قال الله تعالى : من عاد لي ولياً فقد آذنت له بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي فيما افترضته عليه ، ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ولئن سألني لأعطينه ) رواه البخاري .
ومن أسباب محبة الله أيضاً : الإكثار من الذكر لله عز وجل .
قال ابن القيم رحمه الله : من أحب شيئاً أكثر من ذكره .
والذي يحب الله ويريد محبه الله يكثر من ذكر الله تبارك وتعالى ، كما قال تعالى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) .
الحادي عشر : توعد الله عز وجل من اطمئن لدنيا وركن إليها .
فقال تعالى ( إَنَّ
الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا
وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ
أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) .
الثاني عشر : أن الله عز وجل عير من رضي بالدنيا من المؤمنين .
فقال تعالى ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي
سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ
الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ) .
إذاً
: سبب الكسل عن الطاعات و الأعمال الصالحات التي ترضي رب الأرض و السماوات
من أسباب ذلك حب الدنيا وتعلق القلب بالدنيا ، ومن أسباب الفتور ومن أسباب عجز الإنسان أن يقرأ كتاب الله أو أن يطلب العلم أو أن يجاهد في سبيل الله أن يتكاسل عن هذه العبادات أو عن غيرها هو حب الدنيا ووقوع الدنيا في القلب لذلك قال الله تعالى ( أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ) .
فالدنيا قليلة بالنسبة إلى الآخرة و للأسف أصبحت أحاديث وكلام الناس في المجالس هو عن الدنيا وجمعها وكسبها وزخرفها .
الثالث عشر : عقوبة من كانت الدنيا همه الفقر والهم .
فقد جاء في الحديث عن النبي r قال ( من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتبه الله له ) رواه الترمذي .
هذا عقاب له ، لأنه جعل الدنيا هدف يسعى وراءها ، ويركض من أجلها ، ويحب من أجلها ، ويكره من أجلها .
هذا ما ورد في السنة من ذم وتزهيد في الدنيا .
السلف والدنيا :
وننتقل إلى السلف ، لنسمع ونعيش مع أقوالهم وأفعالهم وكيف كانوا زهاداً في الدنيا .
قال ابن القيم وهو يتكلم عن الرسول r : ولهذا نبذها r وراء ظهره هو وأصحابه وصرفوا عنها قلوبهم وطرحوها ولم يألفوها وهجروها ولم يميلوا إليها ، وعدوها سجن لا جنة ، فزهدوا فيها حقيقة الزهد [ كتاب القوائد ] .
وقال موسى عليه الصلاة والسلام : الدنيا قنطره فاعبروها ولا تعمروها .
وقال عيسى عليه السلام لأصحابه : من ذا الذي يبني على موج البحار داراً تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً .
وقال ابن مسعود - في كلمة مهمة فيه الفرق الكبير بيننا وبين السف - يقول : أنتم اليوم أكثر صلاة وعبادة من أصحاب الرسول r وكانوا خيراً منكم ، فقيل لما ؟ قال كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة منكم .
هذا هو الفرق بيننا وبين السلف : هو الزهد في الدنيا كانوا زهاداً في الدنيا ، لو كانت أعمالهم قليلة ولكن قلوبهم متعلقة بالآخرة .
وقال أبو بكر t " إن الله فاتح عليكم دنيا فلا تأخذوا منها إلا ما يبلغكم .
وقد
خرج أبو الدرداء على أهل الشام ورآهم في ترف فقال لهم : مالي أراكم تجمعون
ما لا تأخذون ، وتبنون ما لا تسكنون ، وتؤمّلون ما لا تأخذون ، لقد جمعت
الأقوام التي قبلكم وأمّنتْ ، فما هو إلا قليل حتى أصبح جمعهم بوراً ،
وأملهم غروراً ، وبيوتهم قبوراً ، فجعل الناس يبكون حتى سمع نشيجهم من
خارج المسجد .
وقال الحسن البصري : أن عمر مر علي مزبلة ووقف عندها وقال لأصحابه وقد تأذوا منها : قال هذه دنياكم التي تحرصون عليها .
وقال الحسن : الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن .
ولذلك قال الشاعر
خذ من الرزقِ ما كفى ........ومن العيشِ ما صفى
كلُّ هذا سينقضي ......... كسراجٍ إذا انطفى
وقال علي t : إن الدنيا أدبرت
، وإن الآخرة أقبلت ، ولكل بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة و لا تكونوا من
أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل .
وكان t يقول : إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتين : طول الأمل واتباع الهوى ، فأما طول الأمل فينسي الآخرة ، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق .
قال يحي بن معاذ : مسكين ابن آدم لو خاف من النار كما يخاف الفقر لدخل الجنة .
وكان صفوان بن سليم لو قيل له غداً القيامة ما زاد من عمله شيء .
وهذا الحسن البصري t الإمام الزاهد الذي يقولون إن كلامه يشبه كلام الأنبياء يقول : لقد أدركت أقواماً لا يفرحون من الدنيا بشيء أتوه ، ولا يأسفون على شيء منها فاتهم .
وكان يقول : المؤمن في الدنيا كالأسير يسعى في فكاك رقبته .
وقال : أدركت أقواماً كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي يمشون عليه .
هذا كلام الحسن البصري رحمه الله في زمانه فكيف لو رأى هذا الزمان .
ويقول يحي بن معاذ : عجبت ممن يحزن على نقصان ماله كيف لا يحزن على نقصان عمره .
وكان بعض السلف يقول : احذروا دار الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت فإنهما يفرقان بين المرء وزوجه والدنيا تفرق بين العبد وربه .
وقال جندب t : حب الدنيا رأس كل خطيئة .
وقال وهب : إنما الدنيا من الآخرة كرجل له امرأتان إن أرضى إحداهما أسخط الأخرى .
وقال أبو داود وهو من تلاميذ الإمام أحمد بن حنبل : ما رأيت الإمام أحمد بن حنبل ذكر الدنيا .
[ الأمام أحمد أمام أهل السنة والجماعة ما بلغ هذه المنزلة إلا بالزهد بالدنيا ] .
هذا الأمام العظيم الذي كان يحضر مجلسه 5000 رجل 500 يكتبون والباقي يتعلمون من هديه وسمته و أخلاقه وأدبه .
جاءته الدنيا فأباها ، والرئاسة فنفاها ، وعرضت عليه الأموال فردها .
وكان يقول : قليل الدنيا يُجزىء وكثيرها لا يُجزىء .
وقال الحسن البصري : من أحب الدنيا وسرته خرج حب الآخرة من قلبه .
وقد سئل مرة من المرات من الفقيه يا أبا سعيد ؟ فقال الزاهد في الدنيا الراغب بالآخرة .
وقال بعض السلف : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا .
ومعنى
هذا الكلام كما قال بعض أهل العلم : إن الناس نيام الآن ، متى يستيقظون ؟
إذا احتضر أحدهم ورأى أن القبر أمامه ، وأن الآخرة قد أقبلت ، فإنه يندم
ويبكي وحينئذ يستيقظ من غفلته ، لكن لا ينفعه ، فقد فات الفوت .
هذا الإمام الشافعي رحمه الله ، قيل له كيف أصبحت يا إمام ؟ قال أصبحت من الدنيا راحل .
و اسمع لابن القيم رحمه الله الإمام الزاهد طبيب القلوب يقول في كتابه الفوائد واصفاً الدنيا :
الدنيا كامرأة بغي لا تثبت مع زوج ، والسير في طلبها كالسير في أرض مسبعة - أي كثيرة السباع - السباحة فيها كالسباحة في غدير التمساح .
وقال الفضيل رحمه الله : طارت فكرتي في هذه الآية : ( إِنَّا
جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ
أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً )
.
يقول ابن مسعود : ما أصبح أحد من الناس إلا وهو ضيف ، وماله عرية ، فالضيف مرتحل والعارية مردودة .
وزار
قوم رابعة فذكروا الدنيا فاقبلوا على ذمها فقالت : اسكتوا عن ذكرها ،
فلولا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها ، ألا إن من أحب من شيءٍ أكثر
من ذكره .
قال الحسن البصري : رحم الله أقواماً كانت الدنيا عندهم وديعة .
وقال ابن عباس : إن الله جعل الدنيا ثلاثة أجزاء : جزء للمؤمن وجزء للمنافق وجزء للكافر ، فالمؤمن يتزود ، والمنافق يتزين ، والكافر يتمتع .
كلام عظيم وجميل : ولذلك النظر في سير العلماء و النبلاء والعظماء من أسباب رقة القلب .
وقال يحي بن معاذ العقلاء ثلاثة : من ترك الدنيا قبل أن تتركه ، وبنى قبره قبل أن يدخله ، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه .
وقال عيسى عليه السلام : مثل طالب الدنيا كمثل شارب ماء البحر ، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً حتى يقتله .
هذا بعض كلام السلف في الدنيا رحمهم الله .
وهنا سؤال يرد : كيف نحقق الزهد وكان النبي r يقول اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا .
إذاً كيف نزهد بالدنيا ؟
أولاً : ذكر الموت و الإكثار من ذكره .
فإنه ما ذكر أحد الموت إلا هانت الدنيا في عينيه ، فقد قال النبي r ( أكثروا من ذكر هادم اللذات ) .
وجاء في رواية ( فإنه يزهد في الدنيا ) .
ولذلك يقول الحسن البصري ( إن الموت فضح الدنيا فلم يترك لذي لبٍ فيها فرحاً .
إن
الموت علاج للزهد في الدنيا ، أن تزور المقابر ، أن تذهب إلى المقبرة
وتنظر الآباء و تنظر للرجال والصغار والكبار تنظر أين أبي و أبوك و أين
أخي و أخوك ؟؟؟ تنظر أين الحكام ؟ أين الملوك ؟ أين الأغنياء ؟ أين
الفقراء ؟ تنظر إلى من حوَوا الدنيا بأجمعها بماذا ذهبوا بغير الكفن .
كم واثق بالعمر أفنيتُه .......... وجامعٍ بدلت ما يجمعوا
إذاً ! ! ذكر
الموت سبب رئيسي ، فحينما تذهب وتنظر إلى مقابر وتطل على ظواهرها ، وتتأمل
ما في بواطنها ، تذهب إلى المقابر وتتذكر أنهم كانوا قبل قليل يمشون على
الأرض ، وتتذكر أنهم قبل أيام يأكلون معنا ويشربون معنا ،ويلعبون معنا ،
أين هم ؟ قد كّبلوا بأعمالهم تحت التراب .
فلا إله إلا الله : كم من أناسٍ تحت التراب ينعمون والناس من حولهم يصيحون .
ولا آله إلا الله : كم من أناس تحت التراب يعذبون والناس من حولهم يضحكون .
ولذلك كان أبو الدرداء كثيرا ما يجلس إلى المقابر ، فقيل له في ذلك فقال : أجلس إلى قوم يذكرونني بالآخرة وإذا قمت لا يغتابونني
ثانياً : أن يعرف حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة .
وهذا معلوم فإن الإنسان لا يمكن أن يزهد في شيء لا يعرف حقيقته ، ولكن عندما تعرف الدنيا وحقيقتها، وتعرف أنها حقيرة وزائلة فانية ، لو كانت لها قيمة ، أو كانت غالية لأعطها الله لنبيه r .
ولذلك يقول ابن القيم : لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا ، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظريين صحيحين :
النظر الأول
: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها وخستها وأَلَم
المزاحمة عليها والحرص عليها وما في ذلك من الغصص والأنكاد ، وآخر ذلك
الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف ، فطالبها لا ينفكّ من همّ
قبل حصولها ، وهمّ في حال الظفر بها ، وغمّ وحزنٍ بعد فواتها .
النظر الثاني : النظر في الآخرة ، وإقبالها ومجيئها ولا بد ، ودوامِها وبقائِها ، وشرفِ ما فيها من الخيرات والمسرات ،
والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا ، فهي كما قال سبحانه ( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) ، فهي خيرات كاملة دائمة ، وهذه – يعني الدنيا - خيالات ناقصة منقطعة ومضمحلة . [ كتاب الفوائد ] .
وقال ابن القيم في كتاب طريق الهجرتين مبيناً بعض أسباب تحقيق الزهد :
أحدها : علم العبد بأن الدنيا ظـل زائل وخيال زائر . الثاني : علمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً وأجل
فهذه الأمور الثلاثة تسهل على العبد الزهد في الدنيا وتثبت قدمه .
ثالثاً : الجلوس مع الفقراء والمساكين وتجنب مجالس أهل الغيبة و الأغنياء .
ولذلك قال r ( انظروا إلى من هو أسفل منكـم و لا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم ) رواه مسلم .
ولذلك كان بعض السلف يجالس الفقراء كثيرا والمساكين حتى يشتاق إلى الآخرة
حتى
قال عون بن عبدا لله : صحبت الأغنياء فلم أرى أحد أكبر هماً مني ، أرى
دابة خيراً من دابتي ، وثوب خير من ثوبي ، فصحبت الفقراء فاسترحت .
وأخيراً أيها الإخوة :
تكلمت عن الزهد في الدنيا ، ولكن الدنيا مزرعة و المقصود من الدنيا أن تكون نعمة ؟ لكن متى تكون نعمة وتكون خيراً للمسلم :
إذا أخذناها وجعلناها مزرعة وموسماً للطاعات وزمناً للعبادات ، ومداداً للتنافس في الصالحات .
فيها
يتزود المسلم للآخرة ، ويعمل للباقية ، وما فاز من فاز يوم القيامة إلا من
عمل في الدنيا وقدم في هذه الدنيا الفانية للآخرة الباقية .
فالدنيا دار صدق لمن صدق ، ودار نجاة لمن فهم عنها واستغلها بالصالحات والخيرات .
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا و إياكم إلى الأعمال الطيبات ، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال .
و أن تكون الدنيا مزرعة الآخرة وطريق إلى الجنة ، وأن لا تكون مبلغ علمنا و لا أكبر همنا .
والله تبارك وتعالى أعلم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد r .
لاتنسونا من صالح دعائكم