بسم الله الرحمن الرحيم
من المحاسن الواضحة لهذه الصحـوة المباركة ، ومن سماتها الظاهرة:
حرصها على صفاء المورد وسلامة الطريق ، مما أثمر اهتمامـاً بالسنة النبوية
تحقيقاً ونشراً ، ودراسة وفقهاً ، وقبل ذلك وبعده ، التزاماً ودعوة
ومشاركــة في هذه المسيرة الراشدة. وهذه الأسطر تعرض موضوعاً مهماً
للمشتغلين بدراسة الأسانيد ، وهو: العمل عند اجتماع الجرح والتعديل في
الراوي الواحد ، وهو موضوع أغفله عدد مــن الباحثين - خصوصاً المعتمدين على
كتاب »تقريب التقريب«.
وأتمنى أن يكون في هذه الأسطر بيان لأهمية هذا المبحث في الحكم على
الرجال وتصحيح الأحاديث وتضعيفها ، فهو ـ مع علم العلل ـ أساس الحكم على
الأحاديث.
وفي ثنايا هذه الأسطر تذكير بمنهج أسلافنا فـي التعامل مع أهل العلم
وآرائهم ، وإنزالهم المنازل التي يستحقونها ، دون إفراط أو تفريـط ، فلا
عصمة لعالم ، وليس أخو علم كمن هو جاهل ، عسى أن نعي منهجهم فنسير على
دربهم.
وقد سلك العلماء في هذا
الموضوع ثلاثة طرق:
1- الجمع بين الأقوال ما أمكن:
وذلك بتنزيل كل قول على أمر خاص ، وأوجه الجمع كثيرة يصعب حصرها ،
منها ما يتعلق بأحوال الراوي في شبابه وكهولته ، سـفـــره وإقامته ، ضبط
صدره وضبط كتابه ، بالنسبة لشيوخه وتلاميذه... وهكذا ، وقد ذكر الإمام
الحافظ ابن رجب في آخر شرحه »لعلل الترمذي« فصولاً نافعة في هذا الباب.
2- الترجيـح:
وهو اعتماد أحد الأقوال ـ جرحاً أو تعديلاً ـ وطــرح ما عداه ،
واعتماد أحد الأقوال لا يكون جزافاً أو هوى ، بل بناءً على أسس وقواعد ،
منها:
(أ) التثبت من النقل عن الناقد ، والتأكد من عبارته:
قال الحافظ ابن حجر: ونقل ابن الجوزي من طريق الكديمي عن ابن المديني
عن القطان أنه قال: لا أروي عنه ـ يعني أبان العطار ـ ، وهذا مردود؛ لأن
الكديمي ضعيف.
وقال في ترجمة بشر بن شعيب الحمصي: قال ابن حبان: كان متقناً ثم غفل
غفلة شديدة؛ فذكره في الضعفاء ، وروى عن البخاري أنه قال: تركناه.
وهذا خطأ من ابن حبان نشأ عن حذف؛ وذلك أن البخاري إنما قال في
تاريخه: تركناه حياً سنة اثنتي عشرة ، فسقط من نسخة ابن حبان لفظ حياً ،
فتغير المعنى.
(ب) النظر في حال الناقد:
مـــن وجوه: تشدداً وتساهلاً ، مرتبته في هذا العلم ، ومعرفته به ،
معاصرته للمتكلم فيه زماناً أو مكاناً ، مصادره في هذا النقد ، مذهبه
الاعتقادي ، اصطلاحاته النقدية..إلخ.
ومن الأمثلة: قول الحافظ في ترجمة أحمد بن شبيب الحبطي: ولا عبرة
بقول الأزدي لأنه ضعيف ، فكيف يعتمد في تضعيف الثقات؟!.
وقال في ترجمة خثيم بن عراك: وغفل أبو محمد بن حزم فاتبع الأزدي
وأفرط ، فقال: لا تجوز الرواية عنه ، ومادرى أن الأزدي ضعيف فكيف يقبل منه
تضعيف الثقات؟!.
وقال في ترجمة محارب بن دثار: وقال ابن سعد لا يحتجون به ،
قلت:...ولكن ابن سعد يقلد الواقدي ، والواقدي على طريقة أهل المدينة في
الانحراف على أهل العراق.
ومما يتعلق باصطلاح الناقد: ما قاله الحافظ في ترجمة يزيد بن عبد
الله الكندي ، قال: عن أحمد أنه قال: منكر الحديث ، قلت: هذه اللفظة يطلقها
أحمد على من يغرب على أقرانه؛ عرف ذلك بالاستقراء من حاله.أ.هـ.
ومن ذلك اصطلاح البخاري في عبارة: منكر الحديث وفي إسناده نظر.
ومـمـــا يتعلق بمعرفة المتكلم بالراوي ما نقله الحافظ في تهذيبه عن
أبي أحمد الحاكم أنه قال: وربـمـا يقع له الغلط ـ يعني البخاري ـ لا سيما
في الشاميين ، ونقله مسلم من كتابه فتابعه على خطئه. [ترجمة أبي عمران
الأنصاري].
(جـ) معرفة سبب الكلام ـ جرحاً أو تعديلاً ـ:
وهذا عنصر مـهـم فـي الترجـيح؛ فقد ردت أقوال أئمة كبار لما عرف سبب
كلامهم ، فقد يكون السبب اختلاف المذهب ـ بين الناقد والمتكلّم فيه ـ وهذا
باب واسع ينبغي تأمله ، أو ما يكون بين الأقران من المنافـسـة التي تؤدي
إلى نوع من الميل على الآخر ، أو وقوفه على نص أو فعل للمتكلم فيه ولم
يفهـمــه الناقد على وجهه الصحيح ، أو يكون كلامه نتيجة ظن مرجوح... إلى
أسباب كثيرة.
وهاك جملة من الأمثلة ـ وهي من
مقدمة الفتح أيضاً ـ:
حميد بن هلال العدوي ، قال يحيى القطان: كان ابن سيرين لايرضاه. قال
الحافظ: بيّن أبو حاتم الرازي أن ذلك بسبب دخوله في شيء من عمل السلطان وقد
احتج به الجماعة.
وهذا إسماعيل بن إبراهيم القطيعي ، وثقة ابن معين وأخرج له الشيخان ،
قال الحافظ: وغمزه أحمد لأنه أجاب في المحنة.
وهذا إمام الصنعة شعبة بن الـحـجـــاج يترك المنهال بن عمرو الأسدي ،
ومع ذلك يوثقه عدد من الأئمة ويخرج له البخاري ، ذلك لأن شعبة لما سُئل عن
سبب تركه له قال: أتيت منزل المنهال فسمعت منه صوت طنبور فرجعت ولم أسأله ،
قال وهب بن جرير: فهلا سألته عسى كان لا يعلم.
وهذا الإمام مالك بن أنس ـ وهو أشـهـر من عرف بانتقائه للرجال ، فإذا
حدث عن رجل فهو ثقة ـ لم يقبل أهل العلم توثيقه لعـبــد الكريم ابن أبي
المخارق. قال ابن عبد البر: لا يختلفون في ضعفه ، غرّ مالك سَمته ولم يكن
من أهل بلده.
وقد أعتذر مالك عن روايته عنه،فقال:غرني بكثرة بكائه في المسجد
[الميزان2/646،647].
أما رد كلام الناقد نتيجة لأنه لم يفهم فعل أو قول الراوي على وجهه
الصحيح ، فالأمثلة كثيرة ، منها:
الحسن بن مدرك السدوسي،قال أبو داود: كان كذاباً يأخذ أحاديث فهد بن
عوف فيقلبها على يحيى بن حماد.
قال الحافظ: إن كان مستند أبي داود في تكذيبه: هذا الفعل ، فهو لا
يوجب كذباً ، لأن يحيى بن حماد وفهد بن عوف جميعاً من أصحاب أبي عوانه ،
فإذا سأل الطالب شيخه عن حديث رفيقه ليعرف إن كان من جملة مسموعه ، فحدثه
به أولاً ، فكيف يكون بذلك كذاباً ، وهذا الراوي خرّج له البخاري وحدّث عنه
أبو زرعة وأبو حاتم ووثقه النسائي.
وهذا زيد بن وهب الجهني، وثـقـة الجـمـهــور، وقــال الحافظ: وشذ
يعقوب ابن سفيان الفسوي، فقال:في حديثه خلل كثير ، ثم ساق من روايته قول
عمر في حديثه: »يا حذيفة، بالله أنا من المنافقين؟!« ، قال الفسوي: وهذا
محال. قلت [الحافظ]: هذا تعنت زائد ، وما بمثل هذا تُضعف الأثبات ، ولا ترد
الأحاديث الصحيحة ، فهذا صدر من عمر عند غلبة الخوف وعدم أمن المكر ، فلا
يلتفت إلى هذه الوساوس الفاسدة في تضعيف الثقات.
ومن ذلك: تكذيب هشام بن عروة لمحمد بن إسحاق ، ولما سئل عن السبب
قال: حدث عن امرأتي فاطمة بنت المنذر وأدخلت علي وهي بنت تسع، وما رآها رجل
حتى لقيَت الله(تعالى).
وقد رد هذا التضـعـيـف عدد من الأئمة منهم أحمد بن حنبل؛ قال: فلعله
سمع منها في المسجد أو سمع منها وهو صبي ، أو دخل عليها فحدثته من وراء
حجاب ، فأي شيء في هذا؟! [الميزان 3/470،471].
ولذلك ذهب المحقـقــون مـن أهـل الحديث إلى تقديم الجرح المفسّر ـ
عند تعارض الجرح والتعديل في الراوي ـ ، وشرطه: كون التفسير يُعتدّ به ومعتبراً
وخفي على المعدّل ، لأن مع الجارح في هذه الحالة زيادة علم ، والله أعلم.
3- التوقف حتى يأتي مرجح:
وقد ذهب إلى هذا المسلك عدد مـن الـنـقــاد ، منهم: الحافظ أبو حفص
عمر بن شاهين في الجزء المطبوع من كتابه »ذكر من اختلف العلماء ونقاد
الحديث فيه...« ، وهو مطبوع في آخر »تاريخ جرجان« للسهمي.
فهو يتوقف حينما يتكافأ النقاد عدداً أو مـكـانــة ، كما في ترجمة
أبي الأشهب جعفر بن الحارث وترجمة حميد بن زياد وزكريا بن مـنظــور ، وقد
توقف في خالد بن أبي مالك ، مع أنه ذكر عن أحمد بن حنبل وأحمد ابن صالح
توثيقه، ونـقــل عــن يحـيـى بن معين تضعيفه.
وقال في الخليل بن مرة: وهذا الخلاف في الخليل بن مرة يوجب الوقف فيه
، لأن الخليل بن مرة روى أحاديث صحاحاً وروى أحاديث منكرة ، وهو عندي إلى
الثقة أقرب.
وبـعــد هــذا الاستعراض الموجز ـ الذي لم أقصد به الاستقصاء
والدراسة العلمية ـ أرجو أن يكون قد تحقق ما قصدته من التذكير بهذا الموضوع
وإثارة الاهتمام به ، حتى يحظى ـ من الإخوة الباحثين ـ بمزيد عناية نظرية ،
وممارسة عملية ، ليستفيدوا من هذا المنهج في نقد وتقويم واقعهم الدعوي
ورموزه... والحمد لله رب العالمين.
http://islamselect.net/mat/497