الحمد لله الذي خلّص قلوب عباده المتقين من ظُلْم الشهوات ، وأخلص عقولهم عن ظُلَم الشبهات
أحمده حمد من رأى آيات قدرته الباهرة ، وبراهين عظمته القاهرة ، وأشكره شكر من اعترف بمجده وكماله
واغترف من بحر جوده وأفضاله وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر الأرضين والسماوات ، شهادة تقود قائلها إلى الجنات
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، والمبعوث إلى كافة البريات ، بالآيات المعجزات
والمنعوت بأشرف الخلال الزاكيات صلى الله عليه وعلى آله الأئمة الهداة ، وأصحابه الفضلاء الثقات
وعلى أتباعهم بإحسان ، وسلم كثيرا
أما بعد :
فإن اصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي
محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها،
وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار
ــــ أعاذنا الله وإياكم من النار ــــ
يقول القرآن في حق من استطاع تحقيق التقوى
والوصول إلى أفقها "ومن يتق الله يجعل له مخرجا". وكلمة "المخرج" هنا ترسم
الصورة النفسية للإنسان المحصور في مكان ضيق، وفي حالة صعبة، ويحاول الخروج
والخلاص منها، ويبذل في هذا قصارى جهده، بحيث يستخدم كل شيء في عالم
الأسباب، ولا يبقى هناك باب لا يطرقه، ولكنه مع كل هذا لا يجد سبيل الخلاص.
وفي هذه الأثناء يلتجئ إلى الله تعالى مسبب الأسباب فينجده في الحال.
وعندما يسند الله تعالى في هذه الآية إيجاد
"المخرج" إليه فإنه يشير إلى مثل هذه العناية المفاجئة. إن هذا الإخراج ليس
من الأمور العادية، بل هو من الخوارق، وعمل يسند إلى الله تعالى فقط.
والحقيقة أن كل أمر من الأمور في الكون يعد من الخوارق، ولكن لكون الألفة
والتكرار يعمي عيوننا فإننا لا نستطيع التطلع إلى الحوادث الجارية حولنا
بنظرة صحيحة قائمة على ربط الأسباب بالنتائج، ولا نستطيع تقييمها التقييم
الصحيح.
إذن فإن من يتقي الله فيترك الحرام ويؤدي
الفرائض، ويتجنب الشبهات ولا يتبعها، ويراعي سنة الله والشريعة الفطرية، أي
يراعي دساتير صاحب القدرة والمشيئة، فإن الله تعالى يفرج كل ضيق يقع فيه
على اختلاف أنواعه وأبعاده، ويحيطه بألطافه التي لا تعد ولا تحصى، وينقذه
من عيش حياة قذرة في الدنيا والآخرة.
إن التقوى في جوهرها إلتزام بالتفكير الإيجابي
وبالسلوك الإيجابي الذي يستحضر فيه المفكر والسالك مراقبة الله عز وجل.
وتفكيرٌ وسلوكٌ من هذا النوع لا تضيع ثمرته على الإطلاق. وقد تترتب عليه
نتائج إيجابية في حياتك وفق ترتيب تعرف قانونه، وذلك حين يرزقك الله من حيث
تحتسب. كما قد تترتب عليه نتائج إيجابية في حياتك وفق ترتيب لا تعرف
قانونه، وذلك حين يرزقك الله من حيث لا تحتسب. وإذا كان قد جعل لسائر البشر
موارد رزق معروفة بحسب تحركهم وسعيهم في الأرض فإنه قد جعل للمتقين موردا
زائدا هو الرزق من حيث لا يحتسبون. وإذا كان الله تعالى قد ضمن سائر أرزاق
الخلق في قوله "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" فإنه خص المتقين
بضمان زائد حين طمأنهم إلى أنه هو الكفيل برزقهم من حيث لا يحتسبون. ونفس
التفكير والسلوك الإيجابيين هما المخرج للمتقين من المآزق. إذ لا يمكن
لحامل هذا النوع من التفكير والممارس لهذا النوع من السلوك أن يصيبه ضيق،
أو أن يستمر في ضيق أصابه. وأحيانا يعرف الشخص المتقي كيف يشق طريقه إلى
المخرج وذلك حين يقوده تفكيره وسلوكه الإيجابي إلى ذلك. وأحيانا أخرى لا
يعرف الشخص المتقي كيف يشق طريقه إلى المخرج، فيتكفل الله له بذلك مجازاة
له على تفكيره وسلوكه الإيجابي. إذن فثمرة التقوى لا تضيع أبدا.
اللهم اجعلنا من المتقين، واجعل لنا من لدنك فرجا ومخرجا، وارزقنا من حيث لا نحتسب.