بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
مع
اقتراب شهر الحج ، وقبل أن يلوح نوره ، أتوجه إليك أخيتي بهذه الكلمات ،
وما هي إلا نبضات أحملها لك من قلبي ، عساها أن تلامس قلبك المؤمن الذي حـن
إلى الحج وعزم عليه
ووصية أتمنى من الله أن يحقق فيها مقصدي ، فتثمر ثمارها أقدمها
لأخواتي
المسلمات قبل الشروع في هذه الرحلة الإيمانية ، وذلك لما رأيت من تقصير
بعضهن في استشعار عظمة النسك والمكان ، فلم يحققن قول الله تعالى :
( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) الحج32
والشعائر : الأوامر والنواهي ، وأعلام الدين الظاهرة
أقول
لك أيتها الموفقة ، يامن عزمت على أداء فريضة الحج ، وكتبه الله لك ، في
حين أنه قد حُرم كثير من المسلمين ممن تتقطع قلوبهم ، إما لمرض أو عجز أو
فقر ، أو مشقة سفر .
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى :
(... فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ...) إبراهيم 37
(وليس
من أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف .. والناس
يقصدونها من سائر الجهات والأقطار.) فصدق وربي إنها بقعة تتقطع دونها أعناق
المسلمين ، وتنتهي عندها آمالهم في الدنيا والآخرة .
وقد جاءت النصوص الصحيحة غنية تعلي من شأن هذا المقام فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
من حج فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع من ذنوبه كيومَ ولدته أمه
أخرجه البخاري ومسلم
وفي رواية للترمذي : ( غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه ) . صححه الألباني في صحيح الترمذي
وَلَمْ يَفْسُقْ ) أَيْ لَمْ يَأْتِ بِسَيِّئَةٍ وَلا مَعْصِيَةٍ .
وَمَعْنَى ( كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه ) : أَيْ بِغَيْرِ ذَنْب .
أي
فضل ، وأي منه ، وأي كرم ، يتكرم بها عليك ـ سبحانه ـ فالحج موسم عبادة من
أجل العبادات ، وقربة من أعظم القربات ، تصفو فيه النفوس ، وتحلق فيه
الأرواح ، مخلفة وراءك جواذب الحياة المادية وآثرة ماعند الله من النعيم ..
بهذا الركن العظيم تمحى الخطايا والآثام ، فأنيبي إلى ربك المنعم القدير ، واخبتي له
و ليمتلئ قلبك غبطة وحمداً على نعمة التيسير ، وعلى أن فسح لك في عمرك وعافيتك ومهد لك سبل الحج .
إن
سفرك هذا هو سفر إلى الله ، وانتقالك إلى بقعة هي من أحب بقاع الأرض إلى
رب الأرض والسموات .. ، فتلك البقاع الطاهرة ؟ ابتداءً من بيته المعظم مهد
التوحيد وحصنه ، أول بقعة وضعت في الأرض ليُتعبد فيها الركع السجود لرب
العالمين مهدها إبراهيم الخليل عليه السلام
إلى المشاعر المقدسة منى وعرفات ومزدلفة
ليكن
لهذا اللقاء تعظيم ورهبة في قلبك قبل المسير إليه ، وتخيلي لو أنك مسافرة
إلى والدك في ديار بعيدة وهو بشوق إليك وانت بشوق إليه كم سيطير قلبك ،
وتحلق روحك فرحاً لذلك اللقاء ، وماذا ستحملين له من هدايا تبهج نفسه ، بل
ستعدين الأيام عداً لرؤيته ، وكم ستغمرك السعادة عند لقائه ..........
ولله
المثل الأعلى ياأختي فأنت مسافرة إلى العزيز الرحيم الذي خص لنا هذا
اللقاء بفضله ، لقاء مع ملك الملوك ، لا أجل ،ولا أعظم ، ولا أسمى من هذا
اللقاء إلا جنة عرضها السموات والأرض .. أياما معدودات في رحابه تعيشين ،
وتحت ظلال رحمته تتنعمين ، تغتسلين فيها من أدران الذنوب .. لكل يوم طعم
خاص ولذة متميزة لاتساويها لذة ، ونعيم لايعدله نعيم ، أيام سماها الله
معدودات يغمرك الكريم سبحانه بفضله ومنته وكرمه ، يباهي الله بك وبحجاج
بيته ملائكته الكرام ، فما أعظمه من شرف ، وما أرفعه من تكريم !
إذا
كوني من الشاكرين ، فقد أحسن الله إليك بغير سابق إحسان منك ، فجهزي العدة
التي تليق بذلك المقام ! سلامة الباطن والظاهر ، تطهير القلب وتطييبه من
الغل والنفاق والرياء ، فمنسك الحج خالص لربك ليس لأحد نصيب فيه ، قال
تعالى :
( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لاشريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين )
راحلة إلى ربك في رحلة ربانية يلتقي فيها ضعفك بقوته ، وذُلك بعزه ، وفقرك بغناه ،
الست بحاجة لخالقك ؟ أما أنت بشوق إليه ؟ أما قد ملأ قلبك الهموم والأحزان ؟ أسئلة عجيبة ،
هل يستطيع مؤمن أن يستغني عن خالقه وفاطره ؟
بلى
وربي كلنا بشوق إليه ، وجميعنا محتاجون إليه في ليلنا ونهارنا وحضرنا
وسفرنا ، ومضطرون لأن يحقق رجاؤنا ، ويشفي صدورنا وأبداننا ، ويجلي أحزاننا
.
وها قد علمت أنه – سبحانه - أصطفاك من بين ملايين البشر لتعانقي أرض عرفات ، أعظم أيام الدنيا !
إذا
حققي معنى العبودية له في هذا النسك في كل صغيرة وكبيرة ، اعلني توحيدك
لعلام الغيوب ، لبي تلبية نابعة من أعماق قلبك واعلمي أنها منفردة لك ،
ولاتباع نبيه صلى الله عليه وسلم
فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( مامن ملب إلا لبى ماعن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا هاهنا )
رواه الترمذي وابن ماجه
يا ألله ماأكرمك ، وماأعظمك ، وما أرحمك بنا ، فتجاوز عن غفلتنا وتقصيرنا .
اعزمي على مرضاته ،كوني حصيفة لبيبة ، واعلمي أن لكل طريق زاد وعدة ،
خططي كيف ؟
كيف ستكون أيامك هناك ، بل كيف ستكون ساعاتك ، ودقائقك . وماذا ستحملين معك من زاد ؟
ستقولين ماذا أحمل معي ؟ احملي غذاء الروح ، مصحفك ليكون قرينك في تلك الرحلة ،
( قال ابراهيم النخعي رحمه الله عن حال السلف في الحج كان يعجبهم إذا قدموا مكة ألا يخرجوا منها حتى يختموا القرآن )
احملي
كتيب أذكارك لتذكري الله قاعدة ، وقائمة ، وراكبة ، وعلى جنبك .. احملي
خمار صلاتك وعاهدي ربك على أن تكون صلاة متميزة تختلف بخشوعها ، وخضوعها
..والاستمرار على ذلك احملي سترك وعفافك في ملابسك ، الساترة الزاهدة بعيدة
عن زينة الدنيا ، اجعلي مظهرك محتشما لتأكدي إيمانك النقي ، نقاء قلبك
وملابس إحرامك .
عظمي حرمات الله قال مجاهد في قوله :
( ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه ) الحج30
الحرمات مكة والحج والعمرة ومانهى الله عنه من معاصيه كلها .
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله :
تعظيم
حرمات الله من الأمور المحبوبة المقربة إليه التي من عظمها وأجلها أثابه
الله ثوابا جزيلاً وكانت خيراً له في دينه ودنياه وأخراه عند ربه
انظري لتعظيم سلفنا الصالح لهذه الشعيرة :
عن
سفيان قال : "حج علي بن الحسين، فلما أحرم، اصفر وانتفض ولم يستطع أن
يلبي، فقيل: ألا تلبي؟ قال: أخشى أن أقول لبيك، فيقول لي: لا لبيك، فلما
لبى، غشي عليه، وسقط من راحلته فلم يزل بعض ذلك به حتى قضى حجة"
الزمي
قلبك وجوارحك التأدب الواجب مع هذه الفريضة قبل قدومك، ولتكن طاعة مطلقة ،
وانقياد تام ، رحلة إيمانية تحملين فيها قلبك المشتاق ، وسياحة روحانية
مليئة بالطاعات وابشري فلقد قدمت على رب كريم ، وعلى إله قريب ودود .
قدمي
طاعة الله ورسوله على طاعة الموضات والصيحات العالمية التي باتت مصدر بلاء
ممن لايريدون بالمسلمة خيراً، وانظري إلى إبل تقدم رقابها لرسول الله صلى
الله عليه وسلم لينحرها يوم النحر ، فحينما حج رسول الله ساق معه مائة من
الإبل (هديه عليه الصلاة والسلام ) فأخذ الحربة لينحرها ، فيا للعجب !
أقبلت الإبل تتسابق إليه أيتها ينحر قبل ، كل واحدة تقدم رقبتها للنبي لتُنحر بيده الشريفة ،
فلا تكن الإبل أكثر طاعة ومحبة منك لرسوله !
فإن
كنت من أهل البنطال فاهجريه وابتريه ، ولا تصحبيه معك فبئس القرين ، إنه
لباس الكاسيات العاريات ، المنزلقات في مهاوي الغرب ، إلا ماكان تحت لباسك ،
( فرحم الله المتسرولات ) وإن كنت من أهل العباءات المزركشة فاقذفي بها
واستبدليها بعباءة ساترة ، لاتطوعي الستر والحجاب لهواك وأهواء أهل السفور ،
بل اجعليها طوعا لشرعك المطهر
فنبيك الحبيب يقول ( لايؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) حسنه النووي في الأربعين .
ويا
لها من جرعة مريرة يتجرعها قلبي في الحج من حال أخواتي اللواتي يرتدين
البنطال الضيق الذي يفصل عوراتهن ، او الملابس القصيرة ، أو التكلف في
اللباس ، لا استشعار لعظمة المكان ولا لعظمة النسك ولا مبالاة بمشاعر
أخواتهن المستقيمات والداعيات ..، ويعلم الله كم نتلظى حزنا ونتألم من
منظرهن .. فيا سبحان الله أين الحياء من الله ؟ أين الخوف من العظيم الرقيب
؟ وخاصة في موقف ترتجف فيه القلوب ، وتُذرف فيه الدموع ، ويُرجى فيه رحمته
وغفرانه .
ولم انس والله تلك الداعية التي قامت تنادي وتنصح
الأخوات أن هذا المكان المبارك لايليق بلباسك وحاولت جاهدة وذكرت لهن أنه
يتوفر لدينا في المخيم ملبوسات ساترة ، لتشتري ما تشائين واستبدلي هذا
اللباس ، حاولت وعظهن مراراً دون جدوى ، وكأن النصح موجه لغيرهـن برغم
الإلحاح .لأنهن ألفن هذا اللباس واستهن بحرمته .
استمعي إلى هذا الحديث المبشر واجعلي حجك كذلك :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
العُمْرَةُ
إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ
لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ومعنى المبرور: هو الذي لا يرتكب صاحبه فيه معصية
اجعليها أياما معمورة بذكره تسبيحا وتهليلا وتكبيراً
نفذي قول العزيز العليم ( واذكروا الله في أيام معدودات)البقرة
ابحثي
عن صحبة صالحة ، ورفقة خير تعينك على طاعة مولاك ، وابتعدي عن صحبة تكثر
الضحك والمزاح ، وكثرة الكلام ، وقطع الليل في السهر واللهو وقتل الوقت
بأحاديث الدنيا ، فهذا وللأسف حال أكثر الحاجات ، بل منهن من تغط في سبات
عميق إلى أذان الفجر سبحان الله
أين قيام الليل في أيام وليال هي من أحب أيام الدنيا عند الله ؟
لا
تدعي قيام الليل في أيام ساعاتها درراً لامعة ، ووزنها كالذهب أوأغلى ،
فقلوبنا عطشى ولا تروى إلا بمجانبة الخلق ، والإنس بالخالق .
كوني ممن قال الله فيهم :
(
أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة يرجو يرجو رحمة ربه قل
هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ) الزمر9
سبحان من هو أنسي إن خلوت به * في جوف ليلي وفي الظلماء والسحر
أنت العظيم وأنت الحب ياأملي * من لي سواك ومن أرجوه ياذخــري
ونهاية
المطاف ! لا تتفلتي من أعمال الحج لتنغمسي في لهو الدنيا ، بل توجهي إلى
خالقك بدعاء خاشع أن يتقبل حجك ويخرجك منه كيوم ولدتك أمك ، ويصلح لك شأنه
كله ، ويهبك من أمرك رشداً
ولنستغفر الله من كل ما مس حجنا من عثرات اللسان ، وغفلات الجنان
وألا يجعله آخر عهد لنا بعرفات ، وأن يحفظنا ويحفظ المسلمين من كل مكروه ، فهو المستعان وحسبنا الله ونعم الوكيل .
أ.خيرية الحارثي
داعية وكاتبة إسلامية
صيد الفوائد