المدخل المنهجي في التعامل مع جيل الصحابة
سلطان العميري
يمثل الصحابة رضي الله عنهم الجيل الأول من دعوة الإسلام، ويكونون اللبنة الأولى التي قام عليها الدين الختام للأديان.
وبالتالي فهم بالضرورة يتمتعون بالخواص التي تتمتع بها الأجيال الأولى من الدعوات العملاقة وتتصف بها اللبنات الأساسية فيها.
فالمستقرئ
لمسيرة التاريخ السحيق لنشوء الدعوات الدينية يجد أن النماذج الأولى التي
انبنت عليها تتصف بخواص لا توجد في غيرها من الأجيال اللاحقة، ويؤكد المفكر
المصري: إبراهيم مدكور هذه الملاحظة فيقول عن الدعوات الدينية: " تقوم
إبان نشأتها على معتنقين اتجهوا نحوها بقلوبهم وتفانوا فيها بأرواحهم" (في
الأخلاق والاجتماع 26).
ومن
أبين تلك الخواص خاصيتان: الأولى: الصدق الإيماني، فالجيل الأول عادة يكون
أصدق الأجيال في الأخذ بمبادئ الدعوة وأعمق إيمانا بأصولها وأشد تفانيا في
الأخذ بقيمها، والثانية: العمق الإدراكي، فالجيل الأول عادة يكون أوسع
الأجيال إدراكا لحقيقة الدعوة وأعمق تصورا لأحكامها وأكثر خبرة بتفاصيلها.
ومستند
تلك الخواص يرجع إلى أن الجيل الأول يعيش حالة الانبثاق الأولى للدعوة
ويشعر بلذة الإحساس بحالة الانتقال إليها، ويعايش مؤسس الدعوة ومرشدها
الأول، ويشاهد اللحظات الأولى من ولادتها وبنائها، ويبصر تطوراتها وأحوالها
وملابساتها، ويعاني من مصاعب تأسيسها وويلات نشرها ومتاعب الدعوة إليها
وإقناع الناس بها, وبالتالي سيكون ولاؤه لها في غاية الشدة، وحبه إياها في
نهاية المحبة، وإدراكه لحقيقتها في منتهي الوضوح.
وإذا
كان هذا الأمر عاما تشترك فيه كل الأجيال الأولى من كل دعوة، فإن الصحابة
رضي الله عنهم يفوقون غيرهم في تلك الخواص، فهم أصدق جيل عرف في التاريخ في
التمسك بمبادئ دعوته، وهم أعلم جيل عرف في التاريخ في الإدراك لأصول ما
آمن به، فليس في الأمة المحمدية ولا في غيرها من الأمم مثل الصحابة في
الصدق الإيماني وفي العمق الإدراكي، وفقد حازوا قصبات السبق وارتقوا أعلى
المعالي، وفي تأكيد هذا التفوق يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " خير أمتي
قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" (البخاري3650)، والخيرية هنا مطلقة
تشمل كل خيرة، الخيرة الدينية والخيرة العلمية.
وفي
تصوير حال الصحابة في الخيرية يقول عبدالله بن عمر رضي الله عنه:" كانوا
أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله
لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم،
وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"
ويؤكد عبدالله بن مسعود ذلك الوصف فيقول: " إن الله تعالى نظر في قلوب
العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير القلوب، فاصطفاه لنفسه،
واستخلصه، وانبعث بالرسالة، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله
عليه وسلم فوجد قلب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء لنبيه صلى الله
عليه وسلم، يقاتلون على دينه".
وهذا
التوصيف متعلق بمجمل جيل الصحابة، وليس المراد منه التوصل إلى القول بعصمة
الصحابة من الوقوع في المعاصي والذنوب، فهم ليسوا معصومين من ذلك، وليس
المراد التوصل إلى القول بعصمتهم من الوقوع في الخطأ العلمي، وإنما غاية
المراد بذلك القول بأن الصحابة لم يقع منهم ما يخرم القيم الإسلامية الكبرى
ولا ما يتناقض أصوله الظاهرة، ولم يقع من أحدهم ما يعد خطأ منهجيا في
الاستدلال، بل أكثر الأقوال التي خالف فيه أحدهم الكتاب والسنة راجعة إلى
عدم علمه بالنص الشرعي لا إلى طريقته الاستدلالية، وأقلها راجع إلى خطئه
الجزئي في فهم النص المعين.
المؤكدات الشرعية:
وهذا
ما يفسر لنا كثرة الثناءات الشرعية التي جاءت في حق الصحابة رضي الله
عنهم، فالقاري للقرآن الكريم وللسنة النبوية، تستوقفه عشرات النصوص التي
تضمنت مدح الصحابة والإعلاء من شأنهم، وقد جاءت في سياقات مختلفة ومشاهد
متنوعة:
فالقرآن تارة يمتدح الصحابة على مواقفهم المشهودة مع النبي صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {إِذْ
تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ
مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِين وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى
وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ
اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً
مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ
وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ
وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَام إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ
أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ
الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ
وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان}[الأنفال:9-12]
وتارة ينوه على جهادهم وبذلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {لَكِنِ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُون أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم}[التوبة:89].
وتارة يصرح برضى الله عنهم ويظهر ما في قلوبهم من الرضى عن الله، كما في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم
بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيم}[التوبة:100]، وكما في قوله تعالى: {لَقَدْ
رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ
عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}[الفتح:18].
وتارة يخبر بصدقهم ويلفت الأنظار إلى تضحيتهم وبذلهم، كما في وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا
الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ
وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}[الحشر:8-9].
وتارة يشير إلى أن لهم أمثالا مضروبة في كتب الأمم السابقة – كالتوراة والإنجيل-، كما في قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ
رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً
مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى
عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً
وَأَجْرًا عَظِيمًا}[الفتح:29].
وتارة يصرح بتحقق توبة الله عليهم ونزول رحمته بهم، كما في قوله تعالى: {لَقَد
تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ
فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ
رَّحِيم}[التوبة:117].
وتارة
يعلن النبي صلى الله عليه وسلم بأن صحابته أمنة لأمته وحفاظ لها، وأنهم
لأمته كالنجوم للسماء، كما في قوله: " النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت
النجوم أتي السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما
يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتى ما يوعدون " (مسلم
2531).
والتزكيات
البليغة للصحابة في نصوص الشريعة مستفيضة بدرجة عالية، وكلها تؤكد على مدى
العمق الإيماني الذي كان الصحابة يتمتعون به وعلى الصلابة الدينية التي
اتصفوا بها وعلى العمق الإدراكي التي توصلوا إليه.
ومن
المستبعد عقلا أن تأتي تلك الثناءات في حق أقوام مصابون بالضعف في التمسك
بقيم الإسلام أو يتصفون بالليونة في الأخذ بتعاليم دينهم وقيمه، أو يعانون
من السطحية الإدراكية لحقيقته، فهل من المقبول عقلا أن يكثر الله تعالى من
الثناء على الصحابة في القرآن وهو يعلم أنهم غير صادقين في دينهم أو غير
صارمين في التمسك به أو غير مدركين لحقيقة أصوله ؟! وهل من المقبول عقلا أن
يثني الله عليهم بذلك الثناء وهو يعلم أنهم سينقلبون على تعاليم دينه
وسيتخلون عن قيمه وأصوله بعد موت رسوله ويعودون إلى قيم الجاهلية؟!!
إن
إمكان حدوث ذلك من أكبر القوادح في بيان القرآن، ومن أفتك الخروقات التي
تنخر في هدايته وإرشاده للخلق، ومن أعظم ما يصرف الناس عن قبول أحكامه
والرجوع إليه.
بل
إمكان حدوث ذلك سيفتح الباب أمام الباطنية القديمة والمعاصرة الذين أولوا
المعاني الكبرى في القرآن، كالصلاة والزكاة والصيام والحج بمعاني مختلفة
تماما عن المراد منها وعما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم،
وسيقولون: إذا جاز أن تكون تلك الثناءات الكثيرة التي جاءت في القرآن على
الصحابة ليست تأكيدا على إيمانهم ولا على صلابة تدينهم ولا على عمقهم
علمهم، وأنها جاءت في حق أناس سينقلبون على ما أظهروه بعد موت نبيهم، فإنه
يجوز لنا أن نؤل المعاني المستفيضة على غير ظاهرها.
الدلائل العقلية والحالية:
ويدلل على صحة تفوق الصحابة في خواص الأجيال الأولى دلائل عديدة من العقل والواقع ، ومن تلك الدلائل:
الدليل الأول: الارتباط الروحي والمعاشي بالنبي صلى الله عليه وسلم:
فالتاريخ
يكشف لنا بصورة قاطعة مدى ارتباط الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم في
حياتهم، فقد كانوا محيطين به لا يفارقونه في حضر أو سفر ويلازمونه في
المسجد وفي البستان ويلتقون به في كل يوم لا يغيب عنهم ولا يغيبون عنه،
وهذا الارتباط من أقوى الأدلة العقلية والواقعية التي تدل على منزلة
الصحابة في فهم الدين وعلى عمق إيمانهم بقيمه وأصوله وشرائعه وعلى صلابة
تدينهم وتمسكهم به؛ لأن الله تعالى اختار لخاتم أديانه وأكملها وأوسعها
أكمل الخلق في المؤهلات المستوجبة لتبليغ الدين العظيم وغرسه في قلوب الناس
ومشاعرهم، فهو صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالدين وبلغة العرب وهو أفصح
الناس في البيان وهو أنصح الناس للناس وأحرصهم على الهداية، وهذه الأوصاف
الثلاث متوفرة فيه في غاية الكمال.
وفي
شرح هذه الكمالات وغيرها يقول ابن تيمية: " معلوم للمؤمنين أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أعلم من غيره وأنصح من غيره للأمة وأفصح من غيره عبارة
وبيانا، بل هو أعلم الخلق بذلك، وأنصح الخلق للأمة، وأفصحهم، فقد اجتمع في
حقه كمال العلم والقدرة والإرادة. ومعلوم أن المتكلم أو الفاعل إذا كمل
علمه وقدرته وإرادته كمل كلامه وفعله وإنما يدخل النقص إما من نقص علمه
وإما من عجزه عن بيان علمه وإما لعدم إرادته البيان. والرسول هو الغاية في
كمال العلم والغاية في كمال إرادة البلاغ المبين والغاية في قدرته على
البلاغ المبين"(الفتاوى 5/31).
وفضلا
عن ذلك ما وهبه الله من الكمالات التي اتصف بها والمواهب الإلهية التي
تفيض عليه جراء اتصاله بالوحي الرباني، وهذا الأحوال تستوجب على المحيطين
به الاستغراق في التفاني في محبته، والتعلق به والاندماج في التأسي بما
بنصائحه وتوجيهاته، وقد وصف عروة بن مسعود يوم كان مشركا حب الصحابة للنبي
صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له فقال: " والله لقد وفدت على الملوك ووفدت
على قيصر وكسرى والنجاشي والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب
محمد محمدا صلى الله عليه وسلم"(مسند الإمام أحمد 18928).
وهذا
التأثير يعد من الكرامات الإلهية التي اختص الله بها نبيه صلى الله عليه
وسلم, وقد اعترف به القاضي والداني، وفي توصيفه يقول حسن البنا: " تأثير
النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه لم يرى التاريخ مثله في وقت من أوقاته
ولا صفحة من صفحاته، وما رأت الدنيا جماعة من الجماعات سارت على هدى نبيها
واتبعت سنة قائدها كتلك الجماعة المؤمنة المخلصة من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم "، ويقول ول ديورانت – وهو من أصحاب الانطباعات غير الجيدة عن
الإسلام ونبيه – ومع هذا يقر بالعظمة التأثيرية للنبي صلى الله عليه وسلم
فيقول: " إذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر قلنا إن محمدا كان
م أعظم عظماء التاريخ، فلقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي
والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو وجدب الصحراء، وقد
نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحا لم يدانه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله "
(قصة الحضارة 13/47).
ويسجل
مستشرق آخر تأكيده على القوة التأثيرية للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقول
هارث: " إن اختياري لمحمد ليكون في رأس القائمة التي تضم الأشخاص الذين كان
لهم أعظم تأثير عالمي في مختلف المجالات ربما أدهش كثيرا من القراء...
ولكن في اعتقادي أن محمدا كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى
وأبرز في كلا المستويين الديني والسياسي (قالوا عن الإسلام، عماد الدين
خليل 145).
فإذا
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتلك تلك القوة التأثيرية نتيجة الكمالات
والمواهب الإلهية التي حلت به فإنه من المستبعد عقلا وذوقا ومنطقا ألا
يستطيع أن يؤثر في من عاش معه ولازمه في حياته وأسفاره وحروبه، ولا يستطيع
أن يغرس فيهم قيم الدين وأصوله والتقبل لشرائعه وينتزع من نفوسهم مبادئ
الجاهلية.
فالمنسجم مع العقل السليم والمتوافق مع المنهجيات التحليلية المنضبطة أن يكون تأثيره فيهم أبلغ تأثير وتغييره فيهم أعمق تغيير.
ومن
المستبعد عقلا وذوقا ومنطقا أن يكون المؤمن الصادق الذي ارتبط ارتباطا
معاشيا بالنبي صلى الله عليه وسلم وسمع خطبه وتوجيهاته مباشرة وشاهد سيرته
بالعيان وعاشها بالإبصار ضعيف التمسك بدينه وقيمه، ومن المستبعد في العقل
السليم أن يكون من عاش مع النبي صلى الله عليه سلم وعرف طريقة حديثه وكيفية
بيانه ضعيف الإدراك لحقيقة ما جاء به من الدين مع ذلك الكمال في الفصاحة
والنصح والبيان، فكيف يستقيم في العقل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم في
المنزلة العالية من الكمال وفي القمة المرتفعة من التأثير والبلاغة
والفصاحة ثم مع ذلك لا يؤثر في من ارتبط به ولازمه وعاش معه سنوات عديدة.
فإن
من عايش شخصا كاملا كالنبي صلى الله عليه وسلم لا بد أن يتأثر به غاية
التأثر ويتشرب مبادئه غاية التشرب، وتفتح عليه مغاليق العلم، فإذا كانت
شخصية النبي صلى الله عليه وسلم تؤثر في المستمعين لها وتحدث أثر بالغا في
المطلعين عليها عن طريق القراءة، فكيف بمن عاش معه وسافر معه وأكل وشرب معه
وحارب معه وصلى خلفه واستمع إلى قراءة القرآن منه مباشرة وجالسه وصادقه؟!!
ألا يدل العقل السليم على أنه أولى بالتأثر من غير؟!!
وقد
حلّقَ أبو الحسن الندوي بقرائه وارتفع بأذواقهم في وصف تأثير النبي صلى
الله عليه وسلم في الصحابة فقال: "الرسول صلى الله عليه وسلم يغذِّي
أرواحهم بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان ويخضعهم أمام رب العالمين خمس مرات
في اليوم عن طهارة بدن وخشوع قلب وخضوع جسم وحضور عقل، فيزدادون كل يوم سمو
روح ونقاء قلب ونظافة خلق وتحرراً من سلطان الماديات ومقاومة للشهوات
ونزوعاً إلى رب الأرض والسموات... ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم
يربيهم تربية دقيقة عميقة. ولم يزل القرآن يسمو بنفوسهم ويذكي جمرة قلوبهم.
ولم تزل مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تزيدهم رسوخاً في الدين وعزوفاً
عن الشهوات، وتفانياً في سبيل المرضاة، وحنيناً إلى الجنة، وحرصاً على
العلم وفقهاً في الدين ومحاسبة للنفس. يطيعون الرسل في المنشط والمكره.
وينفرون في سبيل الله خفافاً وثقالاً. قد خرجوا مع الرسول للقتال سبعاً
وعشرين مرة في عشر سنين. وخرجوا بأمره لقتال العدو أكثر من مائة مرة. فهان
عليهم التخلي عن الدنيا وهانت عليهم رزيئة أولادهم ونسائهم في نفوسهم.
ونزلت الآيات بكثير مما لم يألفوه ولم يتعودوه. وبكل ما يشق على النفس
إتيانه في المال والنفس والولد والعشيرة فنشطوا وخفوا لامتثال أمرها.....
لقد كان هذا الانقلاب الذي أحدثه صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين
وبواسطتهم في المجتمع الإنساني أغرب ما في تاريخ البشر، وقد كان هذا
الانقلاب غريباً في كل شيء: كان غريباً في سرعته وكان غريباً في عمقه وكان
غريباً في سعته وشموله. وكان غريباً في وضوحه وقربه إلى الفهم"(ماذا خر
العالم بانحطاط المسلمين 102-104)
وهذا
كله يجعل من المستبعد عقلا وواقعا أن يوجد أحد أصدق من الصحابة في التمسك
بالإسلام أو يوجد أحد أعلم من الصحابة في إدراك حقيقة دين الإسلام ومعرفة
أحكامه وتفاصيله.
الدليل الثاني: الحال السلوكي:
لعل
من الأمور الملفتة في التاريخ أن مجمل تاريخ الصحابة نقل إلينا بشكل مفصل،
بحيث إنا نستطيع من خلاله أن نتعرف على تفاصيل حياتهم ونقف على جزيئات
أحوالهم، وهذا يسهل لنا مهمة التدليل على تفوقهم على غيرهم من الأجيال في
صدق الإيمان بقيم الدين وعمق الإدراك لأحكامه ومقاصده، فالناظر في أحوال
الصحابة وما كانوا عليه من العبادة والذكر والجهاد وقوة الإيمان والحب
للرسول صلى الله عليه وسلم والبذل في دينه والخضوع لأوامره والاجتهاد في
طاعته، والحرص على تعلم دينه يدرك بسهولة أنه من المستبعد عقلا أن يكون
أولئك القوم ضعفاء في الإيمان بمبادئ دينهم ومن المستبعد عقلا أن ينقلبوا
على قيمه أو يتخلوا عن أصوله وشرائعه، ومن المستبعد عقلا أن يكونوا جهالا
بمقاصده وأحكامه.
وقد
نبه على قيمة هذا الدليل الخطيب البغدادي، وأكد على أنه دليل قائم بنفسه
حتى ولو لم ترد النصوص الشرعية بفضائل الصحابة حيث يقول: " على أنه لو لم
يرد من الله عز و جل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا
عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد
والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم والاعتقاد
لنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيؤن من بعدهم أبد
الآبدين، هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء"(الكفاية 49).
وهذا
الدليل اعتمده العقلاء والعظماء في الحكم على الناس، وجعلوه طريقا يحصلون
به العلم بحالهم ويبنون عليه مواقفهم من الآخرين، وممن اعتمد عليه: هرقل
-ملك الروم- فإنه لما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتابه، استدعى من
كان في بلاده من العرب، وسألهم أسئلة عديدة تتعلق بسلوك النبي وأحواله،
فلما أجابوه بالصدق، اعترف بنبوته وصدقه في دعوته وقال: " لوددت أني أخلص
إليه ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه، وإن يكن ما تقول حقا فسيملك
موضع قدمي هاتين "، فقد استفاد هذا العاقل اللبيب علما جازما باطلاعه على
أحوال النبي من غير أن يلقاه، ولا شك أن النبي أعلى قدرا من الصحابة ومن كل
الخلق، ولكن غاية ما نريد الوصول إليه أنا نستطيع بالعقل أن نصل إلى العلم
الجازم بعمق إيمان الصحابة بمبادئ دينهم وقيمه وقوة علمهم بالاعتماد على
المسلك السلوكي لديهم.
ونحن
إذا التزمنا بالعملية الصحيحة في الاستدلال – كما التزم بها ذلك اللبيب -
نستطيع أن نقول بأنه من المستبعد في العقل أن الصحابة أكثرهم أو كلهم
ارتدوا عن دينهم أو أنهم تخلوا عن قيمه، ونجزم بأنه من المستبعد في العقل
أن يتراجعوا عن الفداءات التي قدموها بمجرد موت النبي صلى الله عليه وسلم
أو أن يضعفوا عن التمسك بأصول الإسلام وشرائعه، ومن المستبعد عقلا أن تكون
مبادئ الجاهلية هي المؤثر الأول والأخير فيهم كما صور ذلك الجابري في كتابه
العقل السياسي العربي.
الدليل الثالث: التفوق في المؤهلات:
العارف
بحال الصحابة والمدرك لطبيعة علاقتهم بشأة دعوة الإسلام وملابستها الحالية
والزمانية سيصل إلى أن لديهم مؤهلات تجعلهم يتفوقون على غيرهم في معرفة
حقيقة الإسلام ويتبوؤن مكانة عالية في ملكة الفهم والاجتهاد والغوص في
أعماقه، وقد سلط ابن تيمية الأضواء على خصائص الصحابة في المؤهلات المعرفية
فقال: " وللصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين كما أن لهم معرفة
بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين فإنهم شهدوا
الرسول والتنزيل وعاينوا الرسول وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله مما
يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا
ذلك"(الفتاوى 19/200).
وتوقف
الشاطبي عند تلك المؤهلات كثيرا وأخذ يبين مستنداتها وموجبات الالتزام بها
في كتاب المنهجي (الموافقات)، فقد أقام هذا الكتاب على أسس علمية عديدة
منها: اعتبار فهم الصحابة لزوم الأخذ به وتقديمه على غيره في التصورات
الشرعية ؛ لأجل أنه سعى إلى شرح ما يختص بهم من أوصاف، وفي ذلك يقول: "
وأما بيان الصحابة فإن أجمعوا على ما بينوه؛ فلا إشكال في صحته أيضًا...وإن
لم يجمعوا عليه؛ فهل يكون بيانهم حجة، أم لا؟ هذا فيه نظر وتفصيل، ولكنهم
يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين:
أحدهما:
معرفتهم باللسان العربي؛ فإنهم عرب فصحاء، لم تتغير ألسنتهم ولم تنزل عن
رتبتها العليا فصاحتهم؛ فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم، فإذا جاء
عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان؛ صح اعتماده من هذه الجهة.
والثاني:
مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة؛ فهم أقعد في فهم
القرائن الحالية وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب
ذلك، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب"(4/127).
مستلزمات عملية:
بعد
الانتهاء من عرض المؤكدات الشرعية على تفوقات الصحابة وتفسير الدلائل
العقلية والحالية على ذلك، فإن المنهجية العلمية الصلبة تستوجب على المتمسك
بها في بناء تصوراته ومفاهيمه الدينية والتاريخية أمورا عملية عديدة، ومن
تلك الأمور:
الأمر
الأول: لزوم الرجوع إلى فهم الصحابة وإلى ما كانوا عليه من حالة دينية
وسلوكية، فالمنهجية العملية البناءة تؤكد على المشاريع الإصلاحية الحرص على
استجلاء الصورة الحقيقة التي تمثل ما كان عليه الصحابة، وتدعوا إلى السعي
في جمع كل ما نقل عنهم من آثار صحيحة، وتحث على محاولة الكشف عن الأسس
العلمية التي أقاموا عليها فهمهم للنصوص الشرعية، وبنوا عليها استنباطاتهم
العلمية ؛ لأنه يستطيع بذلك أن يقف على النموذج الكامل لتطبيق الإسلام،
وبالتالي يتفوق في عمليته الإصلاحية، وهذه النتيجة صدع بها الإمام مالك منذ
زمن مبكر في مقولته الشهيرة: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها
"، وقبل ذلك صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن الرجوع إلى ما كان عليه
الصحابة يحقق النجاة من الخطأ، وذلك حين سئل عن الفرقة الناجية فقال: " من
كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي "، وهذا يؤكد على أن الصحابة يمثلون
النموذج الكامل في الحالة الدينية والعلمية الشرعية.
الأمر
الثاني: الاحتياط الشديد في نسبة الخروقات القيمية والأصولية إلى الصحابة،
فالمنهجية العملية الصلبة تستوجب على الباحثين الحذر الشديد في نسبة أي
أمر ينافي الصدق الإيماني التي تمتع به الصحابة أو يناقض الصلابة الدينية
عندهم أو يقدح في العمق الإدراكي لديهم ، وليس المراد بهذا التوصل إلى
القول بعصمة الصحابة من الوقوع في المعاصي والذنوب، فهم ليسوا معصومين،
وإنما المراد نسبة الأخطاء المتعلقة بأصول الإسلام وبقيمه الكبرى الواضحة.
وكما
أن المنهجيات الناضجة تطالب بالاحتياط الشديد في نسبة أقوال لا تتوافق مع
أحوال بعض المفكرين ولا تتماشى مع الظروف المحيطة بهم،ولا تنسجم مع العقلية
التي يفكر بها، فكذلك هو الحال فيما يتعلق بالصحابة لابد أن تراعى جميع
التفوقات التي امتازوا بها عن غيرهم.
إزهاقات تفوقات الصحابة:
مع
ظهور الدلائل على تفوق جنس الصحابة على غيرهم في الحالة الدينية والعملية
والسلوكية، إلا أنا نشهد مناقضات عديدة لتلك التفوقات ونقف على إزهاقات
ظاهرة للدلالات البينة.
ومن
أول ما نشهده من ذلك: المواقف التي يمارسها الفكر الشيعي الإمامي، فإن
مواقفه من الصحابة تتنافى مع الدلالات الشرعية والعقلية، وتزهق الخواص
الإيمانية والسلوكية لديهم.
ولكن
ذلك ليس مستغربا من الحالة الشيعة الإمامية، فإن المتابع للتاريخ يدرك
بسهولة أن الفكر الشيعي يعاني من عقدة " قابلية الانخراط في الخرافة "، فهو
من أكثر المذاهب تداولا للأفكار التي تتناقض مع العقل، ومن أكثر المذاهب
التي يربى فيها أتباعه على التعالي عن مقتضيات العقل السليم، حتى أن بعض من
مارس العملية الفلسفية منهم لم يستطع أن يتخلص من آثار " القابلية
للانخراط في الخرافة "، ومن الأمثلة البارزة على ذلك: الحالة التي مارسها
محمد باقر الصدر، فقد بلغ قدرا كبيرا في الفلسفة العقلية، ولكنه ما زال
يعتقد أن المهدي دخل السرداب منذ سنة 260 للهجرة، وأنه باق إلى الآن، وأنه
سيخرج في الزمن القادم، وغير ذلك من المسلمات الإمامية.
ولكن
الغريب حقا أن يمارس تلك الإزهاقات كبار المفكرين العرب، ووجه الغرابة في
ذلك: أن الخطاب العربي نادى بأصوات مرتفعة بالعقلانية العلمية، وشن حملة
شعواء على من خالف العقل، وأقام حربا ضروسا على من لم يلتزم بمقتضى
الدلالات العقلية في ممارساته التحليلية وبناءاته المعرفية.
ولكننا
إذا رجعنا إلى تحليلات كثير منهم لمواقف الصحابة نجد أنهم لم يلتزموا
بالمنهجية الصلبة، ولم يسيروا على مقتضيات العملية التحليلية الناضجة، بل
وقعوا في مزاولات عديدة لا تتماشى مع العملية النقدية الصحيحة.
وسنضرب أمثلة على ما ذكره الجابري في كتابه " العقل العربي السياسي " ليتبين لنا صدق ما ذكرنا:
المثل الأول: حين
حلل الجابري الطريقة التي استعملها الصحابة في تحديد الخليفة من بعد النبي
صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة جعل القبيلة هي المؤثر الأول والأخير من
منطلقاتهم، حيث يقول: " المرجعية التي حكمت الكيفية التي جرت بها الأمور
عند بيعة أبي بكر خليفة للنبي، أو الكيفية التي قرنت بها مجريات ذلك البيعة
لم تكن العقيدة ولا الغنيمة، وإنما الكلمة الأولى والأخيرة منطلق القبيلة،
لقد حاول الأنصار الانفراد بالأمر دون المهاجرين، ولكن التناقضات القبلية
الداخلية مزقت وحدتهم، وأضعفت موقفهم، فصار الأمر إلى المهاجرين" (العقل
السياسي140)، بل إنه صور حال الأنصار بأن لديهم إرادة باستباق المهاجرين في
اتخاذ قرر تحديد الخليفة (العقل السياسي132).
وقد
تكرر هذا التفخيم لدور القبيلة عند محمد أركون، فإنه زعم بأنا نجهل الكثير
عن حالة السقيفة، ثم أكد بأن المؤثر الأكبر واللاعب البارز فيها هي
العنصرية القبلية، وأن الصحابة أخذوا يتصارعون في تحديد الخليفة بناءً على
انتماءاتهم القبلية (تاريخية الفكر الإسلامي 282).
ونحن
إذا طالعنا هذا التحليل نجد فيه من الوهلة الأولى تجريدا للصحابة من القيم
الإسلامية المحورية، وانتهاكا للخصوصية التربوية للصحابة، وتعاليا على
الصلابة الدينية لديهم، وخرقا للقوة التأثرية لدى النبي صلى الله عليه
وسلم، فقد كان من أبرز القيم التي جاء الإسلام بتقريرها: محاربة الجاهلية
وانتزاعها من قلوب الناس، وإزالة التأثيرات القبلية في تصرفاتهم الحياتية
والدينية، فمن المستبعد عقلا أن يتخلى الصحابة عن تلك القيم بمجرد موت
النبي صلى الله عليه وسلم ويكون للقبيلة التأثير الأكبر في قضية من أكبر
القضايا الشرعية لديهم.
ثم
إن لو حاكمنا ذلك التحليل إلى المعروف من عادات العرب في المنازعات
القبلية لا نجده متوافقا معها، ولا منسجما مع مجرياتها، فمن المعلوم أن
الاختلافات المتعلقة بالقبيلة عند العرب من أصعب الاختلافات ولا تكاد تنتهي
إلا بعد مفاوضات طويلة ومعقدة، وغالبا لا تنتهي إلا بإسالة الدماء وإزهاق
الأرواح، ولكن الحوار الذي دار بين الصحابة في سقيفة بني ساعدة انتهى بشكل
انسيابي وفي زمن قياسي، فهل من المقبول عقلا أن يحصل ذلك بينهم – وهم عرب
أقحاح – لو كان المحرك الأول والأخير فيهم هو المحرك القبلي فقط؟! أليس هذا
خارجا عما هو معروف من عادات العرب ومتنافر عما هو الغالب لديهم ؟!.
والذي
أوقع الجابري في مثل هذه المخالفة غفلته عن الخصوصية النوعية لجيل الصحابة
ونوعية المصادر التي اعتمد عليها في معرفة ما دار بين الصحابة كما سيأتي
التنبيه عليه.
المثل الثاني: توصل
الجابري إلى أن عليا رضي الله عنه دفع ثمن موقفه من بيعة أبي بكر، وذكر
أن:" المصادر تسكت تماما عن علي ابن أبي طالب زمن أبي بكر، وكأنه لا وجود
له" (العقل السياسي143)، وهذا التحليل فضلا عن أنه مخالف للدلالات العقلية
التي تؤكد على صعوبة تصور أن يقع مثل هذا الفعل من أبي بكر ومن كبار
الصحابة، ولا يصح لنا أن ننسب إلى أبي بكر مثل هذا التصرف السطحي إلا بأدلة
قوية، وهذا ما لم يقدمه الجابري في تحليله السابق.
ومع
ذلك فهو أيضا مخالف لما هو منقول في كتب الحديث والتاريخ من سيرة علي رضي
الله عنه في هذه المدة، فقد ذكر ابن كثير أن عليا ممن خرج مع أبي بكر إلى
ذي القصة لما ارتد أهلها، وذكر أن أبا بكر جعل عليا أحد القادة الذين يحمون
مداخل المدينة مع طلحة والزبير وعبد الله ابن مسعود (البداية والنهاية
6/334).
وجاء
أن أبا بكر العصر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بليال وعلي ابن أبي
طالب يمشي إلى جنبه، فمر بحسن بن علي يلعب مع غلمان، فاحتمله على رقبته وهو
يقول أوه بأبي شبه النبي ليس شبيها بعلي وعلي يضحك" (المسند 40, وإسناده
صحيح).
ثم
إن فترة خلافة أبي بكر اتسمت بالقصر وبوقوع أحداث كبيرة سيطرة على
المؤرخين فلم يهتموا بنقل الأحداث الفردية، ومن يطالع تاريخ خلافة أبي بكر
يجد أن كثيرا من كبار الصحابة لم يكن له ذكر كعثمان بن عفان وغيره.
وبناء
على هذه الدلائل فضلا عما تم تقديمه من أدلة عقلية على نزاهة الصحاب من
حدوث مثل تلك التصرفات يتبين أن الجابري لم يوفق في تحليله ولم يسلك
الطريقة الصحيحة في تبين الأمور واكتشافها على حقيقتها المطابقة للتاريخ.
المثل الثالث: صور
الجابري للقاري العربي حالة الشورى التي كانت بعد موت عمر رضي الله عنه
على أنه ثمة صراعا محتدما بين علي وعثمان، وأنهما استصحبوا الصراع الجاهلي
بين قبائلهم، حيث يقول: " وقائع الشورى تؤكد أن الصراع كان بالفعل شديدا
بين علي وأنصاره وعثمان وأهله، أي بين بني هاشم وبني أمية، غنه الصراع نفسه
الذي كان قائما بينهما في الجاهلية، الذي غطى عنه الإسلام لمدة من الزمن
ليبعث بأقوى مما كان عليه" (العقل السياسي 146).
وابتداءً
نحن لا ننكر أن ثمة خلافا في وجهات النظر حصل بين الصحابة رضي الله عنهم
في تحديد الخليفة بعد عمر، وهو من جنس الخلاف الذي حصل بينهم في خلافة أبي
بكر، ولكن التعاطي الذي مارسه الجابري مع قضية الشورى، يتعارض على طول الخط
مع الأدلة العقلية والحالية التي تؤكد على أن حدوث هذه الصراعات القبلية
مستبعدة في العقل، ولا يكاد المدرك لتلك الأدلة أن يتقبل التحليل الذي
مارسه الجابري عن الصحابة في الشورى، ويصعب عليه جدا أن يأخذ به، فعلي
وعثمان من كبار الصحابة الذين ارتبطوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ارتباطا
روحيا ومعاشيا كبيرا، فمن المستبعد عقلا أن يتخلوا عن القيم الذي غرست في
أنفسهم لأجل الخلافة، ومن المستبعد عقلا أن يرجعوا إلى الحالية الجاهلية
التي حاربها الإسلام بشكل مكثف، وهذا الاستبعاد لا يصح أن ننتقل عنه إلا
بأدلة قوية جدا، وهذا ما لم يقدمه الجابري في تحليله السابق.
ثم
إن السؤال يعود هنا مرة أخرى، هل من المعروف من عادات العرب أن تنتهي
المنازعات القبلية بينهم بمثل الصورة التي كانت بين الصحابة، فقد انتهت
مهمة الشورى في ثلاثة أيام فقط، وعين عثمان ابن عفان خليفة للمسلمين، ولم
يعترض علي ولا أحد من بني هاشم، ولم يقيموا كتلا سياسية معارضة، بل يذكر
التاريخ أن عليا كان على وفاق تام مع عثمان، وكذلك هو الحال في كل بني
هاشم.
وقد
أكدت روايات عديدة على أن الرأي العام في آخر أيام عمر بن الخطاب كان
متوجها إلى بيعة عثمان بن عفان، فقد سأل عمر حذيفة بن اليمان في الحج
فقال: من ترى قومك مؤمرين من بعدي؟ قال حذيفة: رأيت الناس قد أسندوا أمرهم
إلى عثمان بن عفان"(تاريخ المدينة ابن شبة3/392، بسند صحيح)،وقال خارجة بن
مضرب: "حججتُ مع عمر فلم يكونوا يشكُون أن الخلافة من بعده لعثمان"(المصنف,
ابن أبي شيبة38230, بسند صحيح).
ثم
ما صوره الجابري من خلافات سياسية بين بني هاشم وبين أمية في عهد كبار
الصحابة غير صحيح، فإنه لم يكن بينهم شيئا من مخلفات الجاهلية، وكان كثيرا
من ولاة النبي صلى الله عليه وسلم من بني أمية، وقد تزوج منهم وهم تزوجوا
من بني هاشم، وهذا كله يدل على أن الإسلام اقتلع مخلفات الجاهلية من نفوسهم
وهذا
الدلائل فضلا عما سبق تقديمه من الأدلة العقلية والحالية كلها تدل على
خلاف ما توصل إليه الجابري حين صور أن الصحابة تخلوا عن قيم الإسلام ورجعوا
إلى مبادئ الجاهلية بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
المثل الرابع: أن
الجابري عول كثيرا على المصادر المشكوك فيها في تحليل الحوادث الواقعة في
جيل الصحابة، فقد اعتمد كثيرا على كتاب " الإمامة والسياسة", وتكرر ذكره في
كتابه "العقل السياسي" أكثر من خمس وثلاثين مرة، واعتمد عليه وحده في أكثر
من عشرين مرة، وكان أحد ما اعتمد عليه في نقل تفاصيل ما حدث بين الصحابة
يوم السقفية.
وهذا
الاعتماد من الجابري مخالف للمنهجية العملية الصلبة التي تستوجبها حالة
جيل الصحابة، فهذا الجيل قامت الأدلة العقلية والحالية على تفوقه الإيماني
والعلمي وعلى صلابته في التمسك بالقيم الإسلامية، وهذه الحالة تحتم
الاحتياط الشديد في نسبة أي موقف يخالف ذلك، فهل من الاحتياط الشديد أن
نعتمد على كتاب مشكوك في نسبته، وهل من الالتزام بالمنهجية العملية
التحليلية أن نبادر إلى إزهاق تفوقات الصحابة بالاعتماد على مثل كتاب
الإمامة والسياسة، المنسوب إلى ابن قتيبة.
والغريب
حقا أن الجابري نفسه متوجس من صحة نسبة ذلك الكتاب ابن قتيبة، فإنه قال
عنه: " لعل أقدم كتاب وصلنا في هذا الموضوع –الإمامة- هو كتاب الإمامة
والسياسة، المنسوب إلى المؤرخ الكبير والمؤلف السني الواسع الإطلاع أبي
محمد عبدالله ابن قتيبة الدينوري، وعلى الرغم من الشكوك التي تحوم حول صحة
نسبة هذا الكتاب إلى ابن قتيبة، وعلى الرغم من الهنات والأخطاء التي سجلها
عليه الباحثون المختصون، فإنه يبقى مع ذلك أول محاولة سنية في الكلام في
الإمامة "(تكوين العقل العربي108).
فهل
يجوز في المنهجيات العلمية الصارمة التي تراعي الأحوال المحيطة بالقضية
ولا تغفل عن الاحتياط الشديدة التي توجبها الأدلة المحيطة بها أن نعتمد على
مثل كتاب الإمامة والسياسة؟!