منذ
مدة، والمفتون بوجوب الرمي بعد الزوال، يُحمّلون وزر الوفيات يوم الثاني
عشر؛ أن فتواهم ضيق واسعا، فحمل الناس على التزاحم، والتقاتل، ثم الموت !!.
فهاهنا مسألتان للبحث، هما:
الأولى: تحرير وقت الرمي أيام التشريق.
الثانية: من يحتمل الوزر ؟.
* * *
المسألة الأولى: وقت الرمي أيام التشريق.
مسائل الحج تدور بين ثلاث مراتب، هي: الركنية، والوجوب، والاستحباب.
فلها حظ في هذه المراتب كلها، وكل مرتبة منها لها حدود، تبينها، وتميزها عن غيرها.
فالركن: ما لا يتم ولا يصح الحج إلا به. وطريق معرفته من النصوص:
1- أن يرد الأمر به في نص خاص.
2- أن يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه.
3- ألا يرخص فيه بحال، حتى لأصحاب الأعذار.[1]
كالوقوف بعرفة:
- جاء
الأمر به على الخصوص نصا، في قوله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا}،
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) [أبو داود]، وفي حديث عروة بن
مضرس: (من شهد صلاتنا هذه، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ساعة من ليل أو نهار، فقد
تم حجة وقضى تفثه) [رواه الخمسة]
- وفعله النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، فوقف بعرفة مع الناس.
- ولم يرد أنه رخص لأحد في تركه، بل شدد في ذلك، ولم يعذر أحدا، كما في حديث عروة.
فثبت بهذا أنه ركن، كالإحرام، وطواف الإفاضة، وسعي الحج.
والواجب: ما يختل الحج بتركه، دون أن يفسده، ويجبر بدم. وطريق معرفته بالنصوص:
1- أن يرد الأمر به في نص عام، وقد يرد فيه نص خاص.
2- أن يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه.
3- أن يرد عليه الترخيص لفئة. فإن لم يرخص فهو أقوى في الوجوب؛ لكنه يأتي مع الأمر العام.
كالوقوف بعرفة حتى الغروب:
- جاء الأمر به في نص عام، هو قوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم).
- فعله النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، فوقف حتى الغروب.
- لم يرد فيه ترخيص.
ولم يكن ركنا لأمرين، هما:
1- كون الأمر به عاما، وليس بخاص. فالأمر الخاص أقوى في الدلالة من العام.
2- لأن
عدم الترخيص لأصحاب الأعذار بالنص، كما في حديث عروة بن مضرس، أقوى في
الدلالة على الوجوب المؤكد، من مجرد أنه: لم يرد فيه ترخيص.
وكذا طواف الوادع:
- ورد به أمر خاص، قوله عليه السلام: (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت). [مسلم]
- وفعله النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه.
- لكنه
ورد فيه ترخيص للحائض، في حادثة أم المؤمنين صفية رضي الله عنها:
(أحابستنا هي)؟، فلما أخبر أنها طافت، قال: (فلتنفر إذاً). [متفق عليه]
فدل
هذا على وجوبه، لا ركنيته؛ إذ حصل الأمر به على الخصوص والتعيين، فشابه
بذلك الركن، لكنه تراجع عنه بالترخيص فيه. والركن لا يرخص فيه بحال.
والمستحب: ما لا يكمل الحج إلا به. وطريق معرفته:
1- أن يرد الأمر به في نص عام، وقد يرد فيه نص خاص.
2- أن يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه.
3- أن يرد عليه صارف.
كصلاة الطواف:
- ورد الأمر به في نص خاص، قال تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}.
- والنبي صلى الله عليه وسلم فعله بنفسه.
-
لكن ورد عليه صارف، يصرفه عن الوجوب إلى السنية، حديث الأعرابي: أنه سأل
النبي صلى الله عليه وسلم عما افترضه الله عليه، فقال: (خمس صلوات في اليوم
والليلة. قال: هل علي غيرها ؟. قال: لا، إلا أن تطوع). فعلم أنه لا فرض
على العبد غير الخمس. وكل ما عداها فسنة.
** *
بعد التعريف بهذه المراتب: نأتي إلى مسألة الرمي قبل الزوال. من أي هذه المراتب ؟.
هذا يحتاج إلى توصيف وقت الرمي، ومعرفة ما ورد فيه عن الشارع.
فأولا: لنرى ما ورد في توقيت الرمي من أمر، إن كان عاما أم خاصا ؟.
بالبحث لا نجد أمرا خاصا على التعيين، لكن نجد الأمر العام: (خذوا عني مناسككم). وهو نص يشمل كل الأنساك في الحج، وكيفية فعلها.
وثانيا:
مما لا خلاف عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم تعمد وقصد الرمي بعد
الزوال، ولم يفعله قبله ألبتة، لا في الحادي، ولا الثاني، ولا الثالث عشر.
وكان يمكنه أن يفعل قبل وبعد، لكنه ثبت على بعد الزوال، كما في حديث: جابر،
وابن عمر، وابن عباس، وعائشة.
- عن جابر: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة ضحى يوم النحر وحده، ورمى بعد ذلك، بعد زوال الشمس)، [متفق عليه]
- عن ابن عمر: ( كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا ).
- عن ابن عباس: (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمار حين زالت الشمس). [الترمذي]
- عن عائشة: (فمكث بها ليالي التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس). [أبو داود]
فهذان أمران متفق عليهما، وبذلك يخرج توقيت الرمي عن مرتبة الركنية؛ لأن من شرط الركن أن يكون بنص خاص، والتوقيت هنا بنص عام.
إذن
توقيت الرمي - حتى الآن - دائر بين الوجوب والاستحباب، فإذا ثبت عدم
الترخيص فيه لأحد، أو الترخيص لطائفة، أو عدم الصارف، فإن مرتبته هو
الوجوب، ومع وجود الصارف فهو مستحب ؟.
فلنختبر الأمر إذن ؟.
الذين قالوا بعدم الوجوب يقولون بالاستحباب. فالأدلة التي يوردونها فلا بد أن تكون صارفة.
فلا
تفيد إذا كان فيها ترخيص لفئة؛ لأنه حينئذ يكون من جنس الترخيص في الدفع
من مزدلفة ليلا، وترك المبيت بمنى ليالي التشريق، وجمع رمي يومين في يوم،
لأصحاب الأعذار.
كما لا تفيد إذا لم يرد فيها ترخيص لأحد؛ لأنه حينئذ يكون من جنس عدم الترخيص لأحد بالنفرة قبل الغروب من عرفة.
فنحن ننظر في هذه الأدلة التي أوردوها، والتي يفترض أن تكون صارفة عن الوجوب إلى الاستحباب.
* * *
أدلة المجوزين الرمي قبل الزوال: [2]
الدليل الأول:
حديث عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء قدم ولا أخر، إلا قال: (افعل ولا حرج) متفق عليه
هذا الأثر لا علاقة له بالمسألة:
فأولا: هو في أعمال يوم النحر، وإنما النزاع في الرمي أيام التشريق.
وثانيا: هو في ترتيب الأعمال، وليس في توقيت العمل المعين.
وثالثا:
لو أن الصحابة رضوان الله عليهم فهموا من قوله هذا - صلى الله عليه وسلم -
عموم الدلالة حتى في وقت الرمي أيام التشريق، لنقل ترخص بعضهم بذلك في
حجهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو جاءه من يقول: "رميت قبل أن تزول"،
فلما لم ينقل إلا رميهم بعد الزوال: دل على أن قوله صلى الله عليه وسلم:
(افعل ولا حرج) لا يشمل توقيت الرمي في أيام التشريق.
فثبت بهذا: أن هذا الأثر لا يصلح صارفا للأمر العام والفعل النبوي عن الوجوب إلى الاستحباب.
الدليل الثاني:
قالوا: " ومن الأدلة: قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات}.
والرمي
من الذكر، كما صح عن عائشة رضي الله عنها: (إنما جعل الطواف بالبيت، وبين
الصفا والمروة، ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله". فجعل اليوم كله محلا للذكر،
ومنه الرمي.
وهذا يشبه أن يكون كالنص في المسألة عند التأمل".
وهذا استدلال ضعيف متكلف..!!.
ذلك
لأنه لا صيغة للتعبير عن المعنى، سوى الأيام، أو الليالي. والليالي غير
وافية لليوم؛ لأنها نصفه، فما بقي إلا التعبير بالأيام، ففيها يجتمع الليل
والنهار، فيدل عليهما جميعا، وعلى ما فيها من الذكر، من: طواف، وسعي، ورمي
فيه الذكر. كل منها في وقتها المحدد بالفعل النبوي.
فهو دليل على أن
هذه الأيام أوقات للذكر؛ كل ذكر فيها، محله هو الذي وُقِّتَ له شرعا. لا
يلزم منه أن كل ذكر فيها فهو مطلق في كل الأوقات. وإذا كان الطواف والسعي
في كل هذه الأوقات مطلقا، فهذا لثبوته عن الشارع نفسه هذا الإطلاق. والرمي
جاء عن الشارع توقيته بما بعد الزوال، فوجب الأخذ بهذا التقييد، كما وجب
الأخذ بذلك الإطلاق.
فإذا رمى بعد الزوال صح أنه من ذكر الله تعالى في
هذه الأيام، وإذا رمى قبل صح كذلك أنه ذكر، لكن فعل النبي صلى الله عليه
وسلم مبين، فقد بيّن وقته بعد الزوال، فوجب حمل الآية عليه.
فثبت بهذا: أن هذا الدليل لا يصلح صارفا عن الوجوب إلى الاستحباب.
الدليل الثالث:
قالوا: "لا دليل صريح في النهي عن الرمي قبل الزوال، لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من الإجماع، ولا من القياس".
هذه مسألة: هل الوجوب لشيء لا يستفاد إلا من النهي عن ضده ؟.
فإن
معنى هذا الكلام: أن وجوب الرمي بعد الزوال لا يثبت إلا إذا ثبت النهي عن
الرمي قبل الزوال. فإن لم يوجد النهي، فالرمي بعد الزوال ليس بواجب.
وفعله
صلى الله عليه وسلم، وأمر به أمرا عاما: (خذوا عني مناسككم)، فلا يفيد
أكثر من استحبابه.. حتى لو لم يرخص لأحد في الرمي قبل الزوال.. حتى لو لم
يرد صارف.
وبمثل هذا يمكن إبطال واجبات كثيرة؛ لأجل أنه لم يرد فيها نهي عن ضدها !!.
والمعلوم أن الوجوب يثبت بمجرد الأمر، لقوله صلى الله عليه وسلم:
- (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه). [مسلم/الحج/فرض الحج مرة في العمر].
- ولأمر الله تعالى بذلك: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.
فهذا نص على أن مجرد الأمر يثبت به الوجوب، وأما النهي فطريق آخر للوجوب، فإذا اجتمعا كان الوجوب أقوى.
فإذا
كان الأمر العام ضعيفا في الإيجاب، فإن في اتباعه بالفعل النبوي تقوية،
وفي الترخيص فيه لأحد لعذر: ثبوت لوجوبه. وفي حال لم يرخص لأحد: فتأكيد
لوجوبه.
وفي كل حال: هذا الاستدلال لا يصلح أن يكون صارفا؛ لبطلانه من الأساس.
الدليل الرابع:
قالوا:
"لو كان الرمي قبل الزوال منهيا عنه لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بيانا
شافيا، حينما أجاب السائل الذي سأله عن رميه بعدما أمسى، وتأخير البيان عن
وقت الحاجة لا يجوز".
ألا يكفي في البيان الشافي: أمره العام، وفعله، وعدم الترخيص لأحد، أو الترخيص لفئة ؟.
هكذا
ثبتت واجبات، كالوقوف بعرفة حتى الغروب، والمبيت بمزدلفة، ورمي جمرة
العقبة، والجمار، والمبيت بمنى. وهذه وإن خالف في وجوب بعضها أحد، إلا أنه
لا أحد يقول بعدم وجوب شيء منها. فتلك التي وجبت منها: كيف استدل على
وجوبها إذن ؟!.
فهذا كذلك استدلال ليس بصارف.
الدليل الخامس:
قالوا:
"رمي الرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الزوال، بمثابة وقوفه بعرفة بعد
الزوال إلى الغروب. ومن المعلوم: أن الوقوف بعرفة لا ينتهي بذلك الحد، بل
الليل كله وقت وقوفه أيضا".
وقت الوقوف بعرفة لا ينتهي عند الغروب لورود نص فيه، هو حديث عروة بن مضرس.
فأين مثل هذا النص في الرمي قبل الزوال ؟.
إلا إن كان مقصود هذا الدليل: الاستدلال به على جواز الرمي ليلا. فهذا ليس محل النزاع.
الدليل السادس:
"واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:
(أن
الرسول صلى الله عليه وسلم أرخص للرعاة أن يرموا جمارهم بالليل، أو أية
ساعة من النهار). أخرجه الدارقطني، وفي إسناده ضعف، وله شواهد عن ابن عباس،
وابن عمر لا تخلو من ضعف".
لن نلتفت إلى ما قيل في الأثر من ضعف، بل
نعامله معاملة الصحيح، وله جواب، هو: أن فيه ترخيصا. وذلك دليل وجوبه،
فلولا أنه واجب لما احتاجوا إلى ترخيص الشارع.
ومعنى ذلك: أن المضطر وصاحب الحاجة ليس كغيره. فلا يكون حكما عاما إذن.
فإنه من الفرق الكبير أن يقال: لصاحب العذر أن يترخص بالرمي قبل الزوال دون غيره.
وأن يقال: له أن يرمي قبل الزوال بدون عذر.
فالأول يدل على وجوب الرمي بعد الزوال، لكن يرخص لأصحاب الأعذار؛ مضطرين أو ذي حاجة.
والثاني يدل على استحباب الرمي بعد الزوال، وجوازه قبل لكل أحد؛ مضطرا أو غير مضطر.
والأثر - إن صح - يدل على الوجوب.
هذا
لو سلمنا بصحة دلالة الأثر على دعواهم؛ فإنه من الممكن حمل هذه الساعة من
النهار، على ما بعد الزوال، ليتفق مع فعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه،
وحرصهم على تحيّن الزوال.
والقاعدة: أنه لا يلجأ إلى الترجيح، مع إمكانية الجمع. والجمع هنا غير محال.
فهذا الدليل عليهم لا لهم.
وفي خصوص رمي الرعاة ورد الأثر التالي في مصنف ابن أبي شيبة [ 3/260. رقم 14110] في الحج، في الرعاة كيف يرمون ؟.
عن
نافع عن ابن عمر: ( أنه كان يجعل رمي الجمار نوائب بين رعاة الإبل، يأمر
الذي عنده، فيرمون إذا زالت الشمس، ثم يذهبون إلى الإبل، ويأتي الذين في
الإبل فيرمون، ثم يمكثون، حتى يرمونها من الغد إذا زالت الشمس ).
فهذا ترتيب الصحابي لرمي الرعاة، إنما كان بعد الزوال. فأين هم عن الرخصة لو ثبتت، هل نسوها، وهم أحرص الناس على الترخص؟!.
وأين ابن عمر عنها، هل خفيت عليه ؟!.
هذا مع أن الرخصة لا تنافي الوجوب، لكن عدم الترخيص أقوى، وكلاهما واجب، لكن الوجوب على مراتب، وهذا معلوم.
وهنا دليل آخر في المعنى نفسه:
فعن
أبي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه قال: (رخص رسول الله صلى الله عليه
وسلم لرعاة الإبل في البيتوتة: أن يرموا يوم النحر، ثم يجمعوا رمي يومين
بعد يوم النحر. يرمونه في أحدهما). قال مالك: "ظننت أنه قال في أول يوم
منهما، ثم يرمون يوم النفر". [رواه مالك، والترمذي، وابن ماجة].
هذا نص
في جواز تقديم رمي اليوم الثاني إلى الأول، لترمى جميعا، رخصة لصاحب العذر؛
إذ قال: (يرمونه في أحدهما). أي أحد اليومين، فيحتمل التقديم، ويحتمل
التأخير.
لكن ههنا ملحظ، هو:
أنه من قول الراوي، فاحتمال خطئه في قوله: (أحدهما) وارد. فربما نسي، أو لم يحفظ، فلم يشأ أن يحدد من تلقاء نفسه يوما بعينه.
ويؤكد
هذا الاحتمال: ما جاء في رواية أحمد والبيهقي بلفظ: ( أن النبي صلى الله
عليه وسلم أرخص للرعاة: أن يتعاقبوا، فيرموا يوم النحر، ثم يدعوا يوما
وليلة، ثم يرموا الغد).
فهذا الرواية تفيد أن الرمي يكون في الثاني عشر
لليومين، فإذا ضم إلى هذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم في تحين وقت
الزوال للرمي بعده، فإنه يتأكد حمل رواية: (في أحدهما) على اليوم الثاني.
ومع
ذلك: فإن جاز أخذ هذه الرواية على ظاهرها، من غير إيراد عليها، فإنها
تفيد: أن للمضطر أن يترخص بالرمي في اليوم الأول عنه وعن الثاني؛ أي
بالتقديم، ويكون بذلك قد رمي قبل زوال شمس اليوم الثاني. ويبنى هذا على: أن
الأصل في أيام الرمي: أنها كيوم واحد. فيجوز التقديم إذن للعذر.
والمهم في المسألة:
أن هذا الأثر كسابقه، فيه إثبات وجوب الرمي بعد الزوال؛ لأن فيه الترخيص، والترخيص لا يكون إلا مع الوجوب، كما تقرر.
والأثر صححه الألباني في الإرواء [1080].
* * *
إذن كل هذه النصوص وأوجه
الاستدلال لا تنهض أن تكون صارفة، إما لضعفها، أو لبطلانها، غاية ما فيها
الترخص، وهو دليل الوجوب، ليس الاستحباب.
وبهذا يثبت الشرط الثالث من شروط الوجوب في مناسك الحج، وهو:
- أن يرد عليه الترخيص لفئة. فإن لم يرخص فهو أقوى في الوجوب؛ لكنه يأتي مع الأمر العام.
فالرمي
بعد الزوال، إذا أخذنا بالأثر الآنف في رمي الرعاة في أية ساعة من النهار،
فيكون ورد عليه ترخيص لفئة، فهو دليل الوجوب، حيث لم يرخص للعموم.
وإن أخذنا بالدلالات السابقة الأقوى، فيقال: لم يرد فيه ترخيص.
حيث لم ينقل عن الصحابة رميهم قبل الزوال، وكان الذين معه مائة ألف، أفلا يوجد فيهم من يترخص، كما ترخصوا في المبيت وجمع الرمي ؟.
ثم قوله: (في أية ساعة من النهار) عام يقيد بفعله، أي أية ساعة من النهار من بعد الزوال، وهكذا تتفق النصوص، فلا تتعارض.
وبهذا فلا ترخيص لأحد فيه، فيكون أقوى في الوجوب.
فيثبت بذلك: أن الرمي بعد الزوال واجب، حيث تحققت فيه شروط الوجوب:
1- أن يرد الأمر به في نص عام، وقد يرد فيه نص خاص. [والأمر جاء به في نص عام].
2- أن يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه. [وقد فعله بنفسه ]
3-
أن يرد عليه الترخيص لفئة، فإن لم يرخص فهو أقوى في الوجوب، لكنه يأتي مع
الأمر العام. [لم يرد عليه تخصيص في الأصح، وإن قيل بوروده فلا يخرجه عن
الوجوب].
المحصل: أنه لا صارف يصرف هذا الحكم عن الوجوب إلى الاستحباب.
***
بعض الآثار في المسألة:
وقد استدلوا بآثار، منها ما جاء في المصنف لابن أبي شيبة [3/304 . رقم 14575] في الحج، في الجمار كيف ترمى ؟.
عن ابن أبي مليكة قال: "رمقت ابن عباس رماها عند الظهيرة، قبل أن تزول".
ليس بمثل هذا الأثر يبطل الوجوب؛ إذ هو فعل صحابي، وذلك فعل النبي وأمره.
نعم
الصحابي هو أدرى الناس بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا يمتنع عليه
الخطأ، والنسيان، وهذا أمر وارد في هذه المسألة. وقد يكون هذا مذهبه، ليس
مذهب باقي الصحابة. كما أنه لا يمتنع خطأ الراوي في تقدير الوقت.
فهذه احتمالات تبطل الاستدلال بهذا الفعل، وهو معارض بآثار عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم:
- قال عمر بن الخطاب: ( لا ترمي الجمرة حتى يميل النهار ). [البيهقي]
- ويقول ابن عمر: (كنا نتحين إذا زالت الشمس رمينا)؛ والتحيّن ترقب وتربص، كما يتربصون وقت صلاة العيد.
-
وفي أخبار مكة للفاكهي [4/298-299]: عن عمرو بن دينار، قال: (ذهبت أرمي
الجمار، فسألت: هل رمى عبد الله بن عمر ؟. فقالوا: لا، ولكن رمى أمير
المؤمنين. يعنون ابن الزبير. قال عمرو: فانتظرت ابن عمر فلما زالت الشمس
خرج، فأتى الجمرة الأولى، فرماه).
- وفيه عن أبي بالزبير: ( أنه رأى عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير يرميان الجمار حتى تزيغ الشمس )، أي إذا زالت.
- وعن نافع أن ابن عمر كان يقول: (لاترمي الجمار في الأيام الثلاثة حتى تزول الشمس). [الموطأ]
فهذا
قول ابن عمر وفعله، فالاستدلال بعد هذا بقوله في البخاري: (إذا رمى إمامك،
فارم ). لمن سأله عن وقت الرمي، بالقول: "لو كان المتعين عنده الرمي بعد
الزوال لبينه للسائل".
لا وجه له؛ إذ يحتمل أن يكون الإمام يرمي بعد
الزوال، كابن الزبير. أو أنه أراد له موافقة إمامه في أية حال، درءا
للفتنة، فيجوز حينئذ الترخص.
فأين هذا من أفعال، وأقوال صريحة عنه في النهي عن الرمي قبل الزوال ؟.
* * *
والقول بالوجوب هو قول:
ابن عمر، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد وروي عن الحسن وعطاء. [المغني
5/328]، كذلك أبو حنيفة. وفي المصنف لابن أبي شيبة [3/305. رقم 14579]: قال
ابن جريج: "وسمعت عطاء يقول: لا ترمي حتى تزول الشمس. فعاودته في ذلك،
فقال ذلك".
والقول بجواز الرمي هو قول: إسحاق، ورواية عن أحمد، وعكرمة، وطاوس. [المغني 5/328]
* * *
والخلاصة: أن الرمي بعد الزوال واجب. والأمر النبوي يقول: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
فمن
اضطر إلى الرمي قبل هذا الوقت فلا جناح عليه، تشبيها له بالضعفة يدفعون
ليلا، وبالسقاة والرعاة لا يبيتون في منى لياليها، ويجمعون رمي يومين في
يوم، وبالحائض تنفر من دون طواف الوداع.
أما تجويز الرمي قبل الزوال مطلقا للجميع، من دون عذر كتلك الأعذار، فليس له ما يسنده أو يعضده.
* * *
المسألة الثانية: من الذي يحتمل وزر اليوم الثاني عشر ؟.
التزاحم عند الجمرات سبب الوفيات.
هذا صحيح، لا يختلف فيه. إنما الكلام في المتسبب في هذا التزاحم، المؤدي إلى الوفيات ؟.
- هل هو الفتوى بوجوب الرمي بعد الزوال ؟.
- أم التنظيم والإدارة ؟.
- أم عجلة الناس، أو حملهم على الاستعجال ؟.
لو
درسنا الاحتمال الأول، لوجدنا من خلال التتبع: أن الوفيات ليست حصرا على
اليوم الثاني عشر، ففي يوم النحر، في عدة أعوام سابقة، آخرها قبل عامين،
مات جمع كبير من الحجاج، لا يقلون عددا عن الذين ماتوا في الثاني عشر.. فما
كان السبب ؟.
فالوقت واسع جدا، يبدأ منذ ليلة النحر، حتى فجر الحادي عشر..!!.
هم ماتوا لأجل الزحام، وبالقطع: لم تكن الفتوى سبب هذا الزحام.
إذن هنالك سبب آخر للزحام غير الفتوى. ما هو ؟.
حتى
نقترب من المقصود، لو فرضنا أن كل الذين يفتون بالوجوب - على قلتهم، وقلة
المتبعين لفتاواهم- غيّروا فتواهم إلى الجواز، فهل ستحل المشكلة، فيسلم
الناس من الموت ؟.
في كل حال، لا بد من تحديد وقت آخر لبداية الرمي،
فإذا لم يكن بعد الزوال، فسيكون قبل الزوال، وهذا القبل: إما أن يبدأ من
بعد الفجر، أو قبل الفجر، أو منتصف الليل، أو الضحى في ساعة كذا .!!.
ففي كل هذه لا بد من وقت محدد؛ لأن الناس حينئذ سيسألون عن وقت البداية، ولا بد من الجواب.
ثم
يحرص الناس على هذا الوقت الجديد، لأجل التعجل، إما لرغبة في نفوسهم، أو
يضطرهم غيرهم إلى ذلك ؟!!.. ثم يتزاحمون، وتعود المشكلة من جديد، فيموت من
يموت، ويسلم من يسلم ؟!.
وحينئذ يعلم الناس: أن الفتوى كانت بريئة من هذه الوفيات .!!.
فليبحثوا وليعلقوا المشكلة بالأسباب الحقيقية، وهي ظاهرة غير خافية، فكل شيء في الحج ظاهر، وعلاجه كذلك لا يخفى، وليس بالعسير.
والعتب بعد هذا على من رضي بتحميل الفتوى هذه المشكلة..؟!!.
أفكلما كلما حُمّلت الفتوى مشكلة احتملتها ؟!!.
* * *
الرمي بعد غروب شمس الثاني.
من المشهور لدى الجميع: أن من أدركه الغروب يوم الثاني فلم يخرج، أو لم يرم، فعليه المبيت للثالث.
وقد
ذكر ابن قدامة أنه قول: عمر، ومالك، والشافعي وغيرهم. واستدلوا بقوله
تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه}؛ أن اليوم اسم للنهار، فمن أدركه
الليل فما تعجل في يومين، ونقل ابن المنذر عن ابن عمر أنه قال: ( من أدركه
المساء في اليوم الثاني، فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس). [المغني
5/332]
ويلاحظ هنا:
أن الإلزام بالمبيت ليس فيه نص، سوى فعل النبي صلى الله عليه. إنما آثار عن الصحابة، وفهم لمعنى اليوم في الآية؛ أنها النهار فحسب.
أما الآثار فعلى فرض ثبوتها، يبقى السؤال عن دلالتها: هل للوجوب، أم الاستحباب ؟.
كلاهما محتمل. وكلام ابن عمر في هذا واضح الاحتمال، فصيغة الأمر تحتمل الأمرين.
وبما
أنه ليس بكلام الشارع نفسه، الذي يحمل أمره على الوجوب، ما لم يوجد صارف:
فلا نستطيع أن نحمله على الوجوب بإطلاق، إلا بشروط، هي:
- الأول: أن يكون دالا على الأمر.
- الثاني: أن يكون له أصل في كلام الشارع يدل عليه بالوجوب، أما بالنص المباشر، أو بالمقاصد.
- الثالث: لا يكفي هذا في الإيجاب، ولو كان قولا للصحابة، حتى يضاف إليه شرط، هو:
o إما أن يكون إجماعا.
o أو قولا لجمهورهم، أو الخلفاء الأربعة.
o أو قولا لبعضهم، أو أحدهم، فيشتهر دون أن يؤثر مخالفا له منهم.
حينئذ
فالقول حجة في الوجوب، ويجب العمل به. أما بدون هذا فلا يدل - إن دل -
على أكثر من الاستحباب. وهذا مثل إيجاب الدم على ترك الواجب، فإن فيه أثر
ابن عباس: (من ترك نسكا، فليهريق دما)، ورد موقوفا ومرفوعا، وهو وإن كان
يحتمل الاستحباب، كما يحتمل الوجوب، إلا أن له أصلا يدل عليه، هو: إيجاب
الفدية على من ارتكب المحظور. والعلة الظاهرة: ليجبر الخلل الذي أصاب
النسك. فإيجاب الفدية في ترك الواجب أولى؛ لأن فعل الواجب مقدم، وهو مقصود
لذاته، فهو من ذات النسك. أما ترك المحظور فمقصود لغيره؛ لمنع الترفه.
وإذا طبقنا الميزان على أثر ابن عمر: فإننا نخرج بنتيجة هي: أن دلالته على الوجوب ضعيفة.
فهو
وإن كان أمرا، ولم يخالف فيه أحد من الصحابة، على حد ما علمنا: فليس له
أصل يدل عليه، سوى ما استدلوا به من الآية، وهو ضعيف وسيأتي. وليس في قول
النبي صلى الله عليه وسلم، أو فعله، أو تقريره ما يدل على وجوب المبيت لمن
أدركه الغروب.
وحتى لو فرضنا جدلا: ثبوت الوجوب. فإن وجوبه بالقطع أضعف
من وجوب الرمي بعد الزوال، الذي ثبت، كما تقدم: بالقول، والفعل النبوي،
وبالترخيص، أو بعدم الترخيص، على اختلاف في هذا، بالنظر إلى ثبوت الآثار في
الترخيص من عدمه.
فإذا كان ولا بد من الترخص، فيكون الترخص في جهة
نهاية الرمي أولى من جهة البداية، فبدلا أن يقال للناس: ارموا قبل الزوال.
فالأولى أن يقال لهم: ارموا إلى بعد الغروب حتى الليل، إلى الفجر. فإن
أدرككم الفجر، فيلزمكم الرمي من اليوم الثالث.
هذا هو الاختيار الملائم لمكان ومرتبة الوقتين من الرمي.
وإذا
ما استدلوا بالآية، فإنه لا يسلم لهم: أن اليوم اسم للنهار دون الليل. بل
لهما جميعا. وهذا معروف، وإلا فقل لي: هذا النهار مع ليله جميعا. هل يطلق
عليهما اسم سوى اليوم ؟!.
وفي الحج خصوصا: فإن الليل يتبع للنهار. عرفنا
ذلك من شأن يوم عرفة، فليله يتبع نهاره. ومن المعقول أن يكون هذا حكم
ليالي منى؛ لأنها جميعا أيام حج. ويقال: ليلة التروية، ويقصد بها ما يتبع
نهار الثامن.
فإذا كان كذلك، فلا دلالة في الآية على الدعوى.
بل
يمكن الاستدلال بها على: أن وقت الرمي يمتد إلى فجر اليوم الثالث. لأن ذلك
نهاية الليل، الذي هو نهاية اليوم، فما لم ينفر قبله، أو يرم. فيلزمه
الرمي يوم الثالث عشر. وهو قول أبي حنيفة، قال:
"له أن ينفر ما لم يطلع فجر اليوم الثالث؛ لأنه لم يدخل وقت رمي اليوم الآخر، فجاز له النفر، كما قبل الغروب". [المغني 5/332]
والمحصل: أن إيجاب البقاء على من لم ينفر قبل الغروب، أو لم يرم: ليس له ما يسنده.
غاية
ما في الآثار الاستحباب. فإن حملت على الوجوب، فحين مقارنتها بإيجاب الرمي
بعد الزوال، فهذا الثاني أقوى وجوبا، وعليه فتقديم هذا الواجب أولى.
وهذا التيسير من جهة نهاية الوقت، أولى من التيسير من بدايته، لما عرفت من مرتبة كلا الجهتين.
ولو
أن الخائضين في وقت الرمي بعد الزوال وقبله، التفتوا قليلا إلى التحقيق في
مسألة الرمي بعد الغروب، لكان فيه تيسير موافقا لأصول الشريعة، غير مخالف.
هو أحسن من تيسير ربما أفضى إلى تضييع السنة.
وإن من أسباب الزحام يوم الثاني عشر: انحصار وقت الرمي للمتعجل ما بين الزوال والغروب.
فالناس يجتهدون في الرمي أول الوقت، ليدركوا الخروج قبل الغروب.
ولو وسع عليهم من جهة الغروب، حتى يكون إلى الفجر، بحسب التحقيق الآنف، لكان ذلك داعيا لهم إلى التريث، وترك العجلة.
فيرمي بعضهم بعد الزوال، وآخرون بعد العصر، وغيرهم بعد المغرب والعشاء، فيخف الزحام عنهم.
* * *
إذن لدينا لمشكلة الزحام يوم الثاني عشر حلاّن، من الجهة الفقهية، مع استصحاب أن المشكلة ليست فقهية بالمقام الأول:
- الأول: توسيع وقت الرمي من جهة النهاية، إلى فجر اليوم الثالث عشر.
- الثاني: الترخيص لأصحاب الأعذار بالرمي قبل الزوال، أو يوم الأول لليومين معا الأول والثاني.
إن هذا أحسن من الإذن مطلقا بالرمي قبل الزوال، فلا شك أن في هذا تضييع للسنة، وكفى بهذا خطأ.
والله أعلم.
* * *
-------------------------------------
[1]-
الترخيص ثلاثة أنواع، ثنتان منهما يدلان على الوجوب، هما: الترخيص، وعدم
ورود شيء في الترخيص. وواحد يدل على الركنية، هو: عدم الترخيص. قال ابن
قدامة: "وتخصيص العباس بالرخصة لعذره: دليل على أنه لا رخصة لغيره"؛ في ترك
المبيت بمنى. وقال: "بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها: دليل وجوبه على غيرها؛
إذ لو كان ساقطا عن الكل، لم يكن لتخصيصها بذلك معنى. إذاً ثبت وجوبه،
فليس بركن، بغير خلاف"؛ أي الوداع. [المغني 5/325،337]
[2] - من كتاب: افعل ولا حرج. للشيخ الدكتور سلمان العودة سلمه الله تعالى,